Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 179-181)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ } قالت المعتزلة : لم يخلقهم الله - تعالى - لجهنم ، ولكن خلقهم وذرأهم وأعطاهم من القوة ما يكسبون الجنة ، غير أنهم عملوا أعمالا استوجبوا بها النار ، فصاروا للنار بما عملوا من الأعمال ، لا أن خلقهم لجهنم . ثم اختلفوا هم في تأويل قوله : { ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ } ؛ قال بعضهم : ذكر ما إليه آل عاقبة أمرهم ؛ كقوله : { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] لم يلتقطوه ليكون لهم ما ذكر ، ولكن إنما التقطوه ليكون لهم ما ذكر بقوله : { عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ } [ القصص : 9 ] لهذا التقطوه ، لكنه صار لهم ما ذكر ، أخبر عما إليه آل أمره ؛ فعلى ذلك هذا ، وكما يقال : @ … لدوا للموت وابنوا للخراب @@ ولا أحد يلد للموت ولا يبني للخراب ، ولكنه أنبأ بما يئول إليه عاقبة أمره من الموت والخراب ؛ إلى هذا يذهب عامة المعتزلة . وقال أبو بكر الأصم : الآية على التقديم والتأخير ؛ كأنه قال : ولقد ذرأنا كثيراً من الجن والإنس ، لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها ، أولئك لجهنم ، وأولئك كالأنعام . لكن هذا بعيد ؛ لأنه لو جاز هذا في هذا لجاز مثله في جميع القرآن أن يجعل أول الآية في آخرها ، وآخرها في أولها ، فهذا محال . وأما قولهم : إنه إخبار عما آل إليه عاقبة أمرهم ، واستشهادهم بقوله : { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ … } [ القصص : 8 ] فهو يصلح : لمن يجهل عواقب الأمور ، يخرج ذلك منه على التنبيه والإيقاظ ؛ لما لم يعرفوا عاقبة ما [ به ] صار إليه الأمر ، فأما الله - سبحانه عالم السر والعلانية وما كان ويكون في الأوقات التي تكون - لا يحتمل ذلك . وقول الناس : لدوا للموت ، وابنوا للخراب . فهو إنما يذكرون هذا عند التنبيه والإيقاظ لجهلهم بعواقب الأمور ، وإن كانوا لا يبنون ، ولا يلدون للموت والخراب ، وما قصدوا له . وأما التأويل عندنا على ما ذكر في ظاهر الآية أنه خلق لجهنم كثيراً من الجن والإنس ، لما علم في الأزل أنهم يختارون فعل الكفر والأعمال الخبيثة التي يستوجبون بها النار خلقهم لجهنم ؛ لما علم منهم ذلك في الأزل أنهم يختارون الأعمال الخبيثة فذرأهم على ما علم منهم أنهم يختارون ويكون منهم ، وكذلك خلق المؤمنين للجنة ؛ لما علم في الأزل أنهم يختارون فعل الهدى ، ويعملون أعمالاً طيبة يستوجبون بها الجنة ، خلقهم للجنة لا أن خلقهم للجنة مرسلاً [ أو خلقهم لجهنم مرسلا ، ] ولكن لما ذكرنا ، والله أعلم . وأما قوله : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] . إنما خلق منهم للعبادة من علم أنه يعبده ويطيعه ، وأما من علم أنه يكفر به ويعصيه فهو إنما خلقه لما علم [ أنه يكون منه ] ؛ فمن كان علم منه في الأزل أنه يكون منه العبادة خلقه للعبادة ، ومن كان علم منه أنه يكون منه الكفر خلقه لذلك ؛ لأنه لا يجوز أن يعلم منه المعصية وفعل الكفر فيخلقه على خلاف ذلك ؛ دل أنه على ما ذكرناه ، والله أعلم . أو أن يقال : قوله : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] الفريق الذي علم منه العبادة ، لا الكل ؛ دليله قوله : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ } ، ولم يقل : ذرأنا الكل ؛ فهذه في فريق ، وهذه في فريق آخر ، وهذا التأويل يرجع إلى الخصوص ؛ ألا ترى أن الصبيان والمجانين لم يدخلوا فيه ؟ ! أو أن يكون قوله : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] أي : إلا لأكلفهم العبادة وآمرهم بها ؛ فإن كان هذا فهي على الكل : على الكافر والمؤمن جميعاً ، والله أعلم . ويحتمل : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] أي : ما خلقت الجن والإنس إلا لتشهد خلقتهم على وحدانية الله ، وصرف العبادة إليه ، وقد شهدت خلقة كل كافر ومؤمن على وحدانية [ الله ] وألوهيته . وقوله - عز وجل - : { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } . الفقه : هو معرفة الشيء بمعناه الدال على نظيره ، أو معرفة الشيء بمعناه الدال على مدبره ؛ فهؤلاء الكفرة لم يفقهوا ؛ لما لم ينظروا إلى الأشياء لمعناها وحقائقها ، إنما نظروا إلى الأشياء لظواهرها ، وكذلك قوله : { وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا } لما نظروا إلى ظواهرها ، لم ينظروا إلى معانيها وحقيقتها ؛ ليدلهم على تدبير منشئها وحكمته . وكذلك قوله : { وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ } لما كانت للأنعام قلوب وأعين وآذان ، لكن لا يفقهون معناها وحقيقتها ، وإن كانوا يسمعون النداء ، وينظرون ظواهر الأشياء ؛ فعلى ذلك [ هؤلاء ] الكفار ، وإن كانوا يسمعون ويبصرون ما ذكرنا بعد أن لم يفقهوا معانيها وتدبير مدبرها ، فهم كالأنعام . وأصله : أنهم لما لم يستعملوا تلك الحواس فيما جعلت لهم ، [ وإنما جعلت لهم ] لمعرفة حقائق الأشياء ، وما أدرج فيها من المعاني والحكمة ، فصاروا في الحقيقة كمن لا حواس له ؛ إذ لم ينتفعوا بها انتفاع من لهم تلك ؛ [ بل كانوا كمن ليس لهم تلك ] ؛ لذلك نفى عنهم ، والله أعلم . وقال قائلون : نفى عنهم هذه الحواس ؛ لما لم ينتفعوا بها انتفاع من لهم تلك ؛ بل كانوا كمن ليس لهم تلك الحواس للمعنى الذي جعلت تلك الحواس ، فهم كالأنعام ، بل هم أضل ؛ لأن هؤلاء إذا ضلوا الطريق فهدوا [ وأرشدوا لا يهتدون ولا يرجعون عن ذلك ، والدواب إذا ضلوا الطريق فهدوا اهتدوا ، ] وعرفوا ، ومالوا إليه ، فهم أضل من الأنعام لما ذكر ، والله أعلم . وقوله - عز وجل : { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } لأن بنية الأنعام لا تحتمل فهم ذلك ، وبنية هؤلاء تحتمل ؛ إذ جعل لهم عقولاً تميز وتعرف حكمة مدبرها ومنشئها ، لكنهم ضيعوها ، ولم يكن من الأنعام تضييع ؛ لذلك كان أولئك أضل . قال ابن عباس - رضي الله عنه - : قوله : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ } لما ختم الله على قلوبهم ؛ كقوله : { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ } [ البقرة : 7 ] فمن ثمَّ لم تفقه قلوبهم ، ولم تبصر أعينهم ، ولم تسمع آذانهم . وقال : ثم ضرب لهم مثلا فقال : { أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ } في الأكل ؛ لأن همتهم ليست إلا الأكل والشرب ، كهمة الأنعام والبهائم ليست همتهم إلا الأكل والشرب وقضاء الشهوة ، فهي تسمع النداء ولا تعقل ؛ فعلى ذلك الكافر . وقوله - عز وجل - : { أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ } في فهم ما ألقي إليهم { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } ؛ لأنهم أعطوا سبب فهم ذلك ، والأنعام لا . وقوله - عز وجل - : { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } ؛ لأن الأنعام تعرف ربها ، وتوحده ، وتذكره ؛ لقول الله - تعالى - : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ] الآية ، وكقوله : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } [ النور : 41 ] وهؤلاء لا يعرفونه ، ولا يوحدونه ؛ فهم أضل . أو أن يقال : هم أضل لا يهتدون وإن هدوا ودعوا ، والأنعام تهتدي . أو هم أضل ؛ لأنهم يُضَلُّون وَيُضِلُّون غيرهم ، والأنعام لا . أو هم أضل ؛ لأنهم لا ينتفع بهم ، والأنعام ينتفع بها . وقوله - عز وجل - : { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } . عن فهم ما ألقي إليهم وأمروا به . أو غافلون عما أوعدوا . وقوله : { وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا } . يحتمل هذا وجهين : يحتمل أنهم قد ظنوا أن في إثبات عدد الأسماء إيجاب إثبات عدد من الذات ، فأخبر أن ليس في إثبات عدد الأسماء إثبات أعداد من الذات ؛ إذ قد يسمي الشيء الواحد بأسماء مختلفة ، ثم لا يوجب ذلك إثبات عدد ذلك ولا تجزئته ؛ من نحو ما تسمي الحركة : حركة ، عرضاً ، شيئاً ، خلقاً ، من غير أن أوجب ذلك إثبات عدد الحركة أو تجزئتها ، وكذلك في جميع الأشياء ؛ فعلى ذلك يخبر أنه ليس في إثبات عدد [ من ] الأسماء إثبات عدد من الذات ؛ على ما ذكرنا . ويحتمل أن يكون خرج هذا مقابل قول كان منهم ، وهو أن وصفوا الله بشيء لا يحسن أن يوصف به ، وأضافوا إليه أشياء لا يصلح أن تضاف ؛ من نحو قولهم : يا خالق الخنازير ، ويا خالق الخبائث ، ويا إله القردة ، ونحوه ؛ فأخبر أن ادعوه بالأسماء الحسنى مما ثبت عند الخلق أنه مسمى به ، من نحو ما أعطاهم ؛ يقال : يا هادي ؛ يا مرشد ، ونحوه . ويقال بما أعطاهم من النعم : يا كريم ، يا جواد ، ويا لطيف ، ونحوه . ويقال : يا خالق ، يا رازق ، يا الله ، يا رحمن ، يا رحيم ؛ لما ظهر في أنفسهم من ألوهيته وربوبيته ، فقال : لا تدعوا بكذا ، ولكن ادعوا بالأسماء التي ثبت عند الخلق تحقيقها ، وأنه يسمى بها ، وهو ما ذكرنا ، والله أعلم . وقد روي على هذا المعنى [ خبر ] ؛ روي أن رجلاً دعا في صلاته فقال : يا الله ، ويا رحمن ، ويا رحيم ، فقال رجل من المشركين : أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون إلهاً واحداً ، فما بال هذا يدعو ربين [ اثنين ؟ ! فأنزل الله تعالى : { وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ } ويحتمل قوله : { وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ } أي : له الأسماء الحسنى لا الأصنام التي تعبدونها ] نحو ما سموها آلهة وأرباباً ، فقال : هذه الأسماء التي تدعون بها الأصنام لله فادعوه بها ، ولا تدعوا بها الأصنام . وقوله - عز وجل - : { وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيۤ أَسْمَآئِهِ } . [ يحتمل أي : لا تكافئهم بصنيعهم ولا تجازهم بأذاهم إياك ؛ فإن الله هو المكافىء لهم والمجازي بصنيعهم ؛ ألا ترى أنه قال في آخره : { سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } . وقوله : { يُلْحِدُونَ فِيۤ أَسْمَآئِهِ } ] . قيل : الإلحاد هو الجور والميل عن الحق ، والوضع في غير موضعه ، وهم سموا ملحدين لما سموا غيره بأسمائه ، أو لإشراك غيره في أسمائه . أو سموا بذلك لما صرفوا شكر نعمه إلى غيره ، وعبدوا دونه ، مع علمهم أنه لم يكن منهم إليهم شيء من ذلك ، إنما كان ذلك لهم من الله . قال ابن عباس : الإلحاد : الميل ، في جميع القرآن . وقيل : الإلحاد : التكذيب . قال القتبي : { يُلْحِدُونَ } أي : يجورون عن الحق ويعدلون . وأصله : الجور والميل . وقوله - عز وجل - : { سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } . قال : هذه بشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر له ، والظفر على أعدائه في الدنيا . وقال قائلون : هو حرف وعيد ؛ أوعدهم - عز وجل - بأذاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقوله - عز وجل - : { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ } أي : يهدون الخلق بالحق الذي عندهم ، وهو القرآن والكتب التي عندهم . وأمكن أن يكون الحق هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، به يهدون الناس ، وبه يعملون . وجائز أن يكون قوله : { يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ } أي : يدعون الخلق إلى سبيل الله ؛ على ما ذكر في آية أخرى ؛ حيث قال : { ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ } [ النحل : 125 ] . ويحتمل الحق - هاهنا - هو الله ؛ كقوله : { أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ ٱلْمُبِينُ } [ النور : 25 ] . وقوله - عز وجل - : { وَبِهِ يَعْدِلُونَ } أي : بالحق الذي يهدون يعملون ؛ كقوله : { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ … } الآية [ هود : 88 ] .