Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 37-41)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } . قد ذكرنا فيما تقدم أن قوله : { فَمَنْ أَظْلَمُ } : إنما هو حرف استفهام وسؤال لم يخرج له جواب ، لكن أهل التأويل عرفوا ذلك ، فقالوا : لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً ، أجابوا على ما عرفوا من السؤال ؛ وإلا ليس قولهم : لا أحد أظلم ، نفس قوله : { فَمَنْ أَظْلَمُ } ، أي : لا أحد أفحش ظلماً ولا أقبح ظلماً ممن افترى على الله كذباً ، مع علمه أنه خالقه ، وأنه متقلب في نعمه ، وأحاطت به أياديه وإحسانه . وقوله - عز وجل - : { فَمَنْ أَظْلَمُ } : أي لا [ أحد ] أفحش ظلماً ولا أقبح ظلماً ممن افترى على الله كذباً . وقوله : { ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } ، قيل : الافتراء هو اختراع الكذب من نفسه من غير أن سبق له أحد في ذلك ؛ كقوله : { يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } [ الممتحنة : 12 ] وأما [ الكذب ] فقد يكون مما أنشأ هو أو مما قد سبق له أحد فسمع منه ثم افتراه على الله فهو أنواع : يكون بما قالوا : [ إن له ولداً ، وقالوا : إن له شريكاً وصاحبة ، وبما عبدوا غير الله وقالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] و { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] ، ويكون ما قالوا ] { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } [ الأعراف : 28 ] ، ويكون بما حرموا من أشياء على أنفسهم فأضافوا ذلك إلى الله ، ونحو ذلك من الافتراء . وقوله - عز وجل - : { أُوْلَـٰئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ ٱلْكِتَابِ } . اختلف فيه : قال الحسن : [ إنّ ] من أطاع الله في أمره ونهيه ، وأطاع رسله ، فقد كتبت له الجنة خالداً فيها أبداً ، فذلك نصيبه وحظه من الكتاب الذي كتب له ، ومن عصى الله وخالف رسله ، كتبت له النار [ خالداً فيها أبداً ] فهو نصيبه من الكتاب . وقال أبو بكر الكيساني : [ في ] قوله : { أُوْلَـٰئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ ٱلْكِتَابِ } ، أي : حظهم من الخير والعقاب في الآخرة ، وهو قول القتبي ويحتمل وجهين آخرين غير هذين : أحدهما : ما حرفوا من الكتب وغيروها ، ثم أضافوا ذلك ونسبوه إلى الله ؛ كقوله : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 79 ] وقوله - عز وجل - : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِٱلْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } [ آل عمران : 78 ] ، فصار ما حرفوا هم وغيروه سنة فيهم يعملون بها إلى يوم القيامة ، فينالون هم جزاء ذلك يوم القيامة . والثاني : قوله : { يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم } مما كتب لهم من الرزق والنعمة ، يستوفون ذلك المكتوب لهم ، ثم يموتون . ثم قوله : { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ } . على هذا التأويل جاءتهم الرسل بقبض أرواحهم ، وهو ظاهر . وعلى تأويل من حمل ذلك على الجزاء في الآخرة : فهو يجعل المتوفَّى في النار ؛ لشدة العذاب ، وإن كانوا لا يموتون ، وهو كقوله : { وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } [ إبراهيم : 17 ] ، أي تأتيه أسباب الموت . وعلى تأويل [ من ] يجعل قوله : { أُوْلَـٰئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ ٱلْكِتَابِ } : في الدنيا في استيفاء الرزق وما كتب لهم ؛ يكون قوله : { حَتَّىٰ } على الإثبات وعلى تأويل من يقول بأن ذلك في الآخرة فيجيء أن يكون على الصلة والإسقاط . وقوله - عز وجل - : { أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } . تقول لهم الملائكة في النار على تأويل هؤلاء [ و ] على تأويل أولئك : عند قبض أرواحهم ، أو بعد قبض أرواحهم . وقوله : { أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } ، أي تعبدون من دون الله ، وتقولون : { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] ، وقولهم : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] ، أو الأكابر التي ذكر بقوله : { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } [ الأنعام : 123 ] أين أولئك الذين كنتم تعبدون من دون الله ؟ ! { قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا } . وهلكوا ، أي : بطل عبادتنا التي عبدناهم ؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى : { أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ } [ السجدة : 10 ] ، أي : هلكنا وبطلنا . { وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } . فإن كان قوله : { أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } : الكبراء منهم والرؤساء يكون قوله : { ضَلُّواْ عَنَّا } ، أي : شغلوا بأمرهم عنا ، وإن كان الأصنام يكون قوله : { ضَلُّواْ عَنَّا } أي : بطل ما كنا نطمع من عبادتنا إياهم ، وهو قولهم : { شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] . وقوله - عز وجل - : { قَالَ ٱدْخُلُواْ فِيۤ أُمَمٍ } . قوله : { فِيۤ أُمَمٍ } يحتمل مع أمم ، وذلك جائز في اللغة ؛ يقال : جاء فلان في جنده . وقوله : { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مِّن ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ فِي ٱلنَّارِ } . المتبوعين والأتباع جميعاً معاً والعرب تضع حروف الخفض بعضها في موضع بعض ؛ كقوله : { فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي } [ الفجر : 29 ] ، قيل : مع عبادي . ويحتمل " في " موضعه كأن المتبوعين يدخلون النار قبل الأتباع [ فقيل لهؤلاء الأتباع ] { ٱدْخُلُواْ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مِّن ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ فِي ٱلنَّارِ } . وفيه دليل أن الكفار من الجن يعذبون كما يعذب الكفار من الإنس . وقوله - عز وجل - : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } . لعن الأتباع المتبوعين ؛ لما هم دعوهم إلى ذلك ، وهم صرفوهم عن دين الله ؛ كقولهم : { إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِٱللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً … } [ سبأ : 33 ] ، وكقوله : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ … } [ سبأ : 33 ] ، وغير ذلك من الآيات . ولعن المتبوعون الأتباع ؛ لما يزداد لهم العذاب بكثرة الأتباع وبقدرهم ؛ فيلعن بعضهم بعضاً . وفيه دليل أن أهل الكفر وإن اختلفوا في مذاهبهم فهم إخوة وأخوات بعضهم لبعض ، كالمؤمنين [ بعضهم ] إخوة وأخوات لبعض . وقوله - عز وجل - : { حَتَّىٰ إِذَا ٱدَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً } . قال بعضهم : هو من التدارك ، أي : حتى إذا تداركوا وتتابعوا فيها . وقيل : هو من الدرك ؛ لأن النار دركات ، لا يزال أهل النار يهوون فيها لا قرار لهم في ذلك ؛ [ و ] في القرار بعض التسلي والراحة ، فلا يزالون يهوون فيها دركاً فدركاً . وقيل : ولذلك سميت هاوية . وقيل : { حَتَّىٰ إِذَا ٱدَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً } ، أي : اجتمعوا فيها ؛ فعند ذلك يتلاوم بعضهم بعضاً ، فإن كان على التدارك فهو كقوله : { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } [ الصافات : 22 ] ، وإن كان على الاجتماع فهو للتضييق ؛ كقوله : { وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ } [ الفرقان : 13 ] الآية ، ويجتمعون يلعن بعضهم بعضاً . وقوله - عز وجل - : { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ } . يحتمل قوله : { أُخْرَاهُمْ } : الذين [ كانوا ] في آخر الزمان ، { لأُولاَهُمْ } : الذين شرعوا لهم ذلك الدين . { رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ ٱلنَّارِ } . ويحتمل قوله : { أُخْرَاهُمْ } الذين دخلوا النار أخيراً وهم الأتباع ، { لأُولاَهُمْ } الذين دخلوا النار أولاً ، وهم القادة والمتبوعون ، { رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ } ، يعني : القادة والسادة ، { أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ ٱلنَّارِ } ؛ كقوله : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي ٱلنَّارِ يَقُولُونَ يٰلَيْتَنَآ أَطَعْنَا ٱللَّهَ وَأَطَعْنَا ٱلرَّسُولاَ } [ الأحزاب : 66 ] ، ويشبه أن يكون قوله : { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ } : ليس على القول بعضهم لبعض ، ولكن على الدعاء عليهم واللعن ؛ كقوله : { وَٱلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً } [ الأحزاب : 68 ] . وقوله : { فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ ٱلنَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ } . قال بعضهم : لكل ضعف النار ؛ لأنها لا تزال تزداد وتعظم وتكبر فذلك الضعف ، وذلك للأتباع والمتبوعين جميعاً . وقال بعضهم : قوله : { لِكُلٍّ ضِعْفٌ } ، أي : للمتبوعين والقادة ضعف ، قال لهم مالك ، أو خزنة [ النار ] ، أو من كان : ليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة بعد أن يقال لهم ذلك . وقوله - عز وجل - : { وَلَـٰكِن لاَّ تَعْلَمُونَ } . في الدنيا أن لكم ضعفاً منها . وقيل : { لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـٰكِن لاَّ تَعْلَمُونَ } : للحال بأن لكل ضعفاً من النار . وقوله - عز وجل - : { وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ } . يحتمل { أُولاَهُمْ } ما ذكرنا : الذين شرعوا لهم ذلك الدين ، وسنّوا لهم { لأُخْرَاهُمْ } الذين كانوا في آخر الزمان . ويحتمل { أُولاَهُمْ } : الذين دخلوا أولاً ، { لأُخْرَاهُمْ } : هم الذين دخلوا النار أخيراً ، وهم الأتباع . { فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } . قيل فيه بوجهين : يحتمل ما كان لكم علينا من فضل في شيء ؛ فقد ضللتم كما ضللنا ، أي : لم يكن لنا عليكم فضل سلطان ، ولا كان معنا حجج وآيات قهرناكم عليها ، إنما دعوناكم إلى ذلك فاستجبتم لنا ، وقد كان بعث إليكم الرسل مع حجج وآيات فلم تجيبوهم ، وهو كخطبة إبليس حيث قال : { وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ … } [ إبراهيم : 22 ] الآية ، فيقول هؤلاء القادة للأتباع مثل قول الشيطان لجملتهم . وقيل : قوله { فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } ، يعني : تخفيف العذاب . أي : نحن وأنتم في العذاب سواء ، لا فضل لكم علينا من تخفيف العذاب في شيء . أحد التأويلين في قوله : { فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } يرجع إلى الآخرة والآخر إلى الدنيا . وقوله - عز وجل - : { فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } . من الشرك والتكذيب لآيات الله ، وكذلك جزاء بما كانوا يكسبون ويعملون . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَا وَٱسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا } . هذا قد ذكرناه فيما تقدم . وقوله - عز وجل - : { لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ ٱلسَّمَآءِ } . قال بعضهم : يعني بأبواب السماء أبواب الجنان ؛ لأن الجنان تكون في السماء ؛ فسمى أبواب السماء لأن الجنان فيها . ألا ترى أنه قال : { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [ الذاريات : 22 ] ، وما يوعد لنا هو الجنة ، ثم أخبر أنها في السماء . ألا ترى أنه قال : { وَلاَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ } [ كأنه قال : لا تفتح لهم أبواب الجنان ولا يدخلون الجنة ] - أيضاً . وقال آخرون : أبواب السماء هي أبواب السماء ؛ وذلك أن أعمال المؤمنين ترفع إلى السماء وتصعد إليها أرواحهم ، وأعمال الكفرة وأرواحهم ترد إلى أسفل السافلين ؛ كقوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] ، وقال في الكافر : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ } [ التين : 5 - 6 ] فإذا كانت أعمال المؤمنين وأرواحهم ترفع إلى السماء وتصعد إليها ، أخبر [ أن الكافرين ] لا تفتح لهم أبواب السماء ولا لأعمالهم ، ولكن ترد إلى السجين . وأمكن أن يكون على التمثيل ليس على تحقيق السماء ؛ ولكن ذكر السماء لما أن السماء هي مكان الطيبات من الأشياء وقرارها ، لا مكان الخبائث والأقذار ، والأرض هي مكان ذلك ، وأعمال الكفرة خبيثة ؛ فكنى عن أعمالهم الخبيثة بالأرض [ لما أن الأرض ] هي معدن الخبائث والأنجاس . وكنى عن أعمال المؤمنين الطيبة بالسماء ، وهو كما ضرب مثل الإيمان : بالشجرة الطيبة الثابتة وفرعها في السماء ، وضرب مثل الكفر : بالشجرة الخبيثة المجتثة من فوق الأرض ، ليس على أن يكون قوله : { وَفَرْعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ } [ إبراهيم : 24 ] على تحقيق السماء ، ولكن على الوصف بالطيب والقبول ؛ فعلى ذلك الأول . وقوله - عز وجل - : { لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ ٱلسَّمَآءِ } . لا يستقيم مثله على الابتداء إلا على نوازل تسبق ، خرج ذلك جواباً لها ؛ نحو قوله : { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ … } [ البقرة : 111 ] الآية . أو أن ذكروا أعمال أنفسهم أنهم يعملون كذا ؛ فقال : { لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ ٱلسَّمَآءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ } . فإن قيل : [ كيف ] خوفهم بما ذكر من سدّ الأبواب عليهم ، وجعل النار لهم مهاداً وغواشياً ، وهم لا يؤمنون بذلك كله ، فكيف خوفوا به ؟ قيل : إن المرء إذا خوف بشيء فإنه يخاف ويهاب ذلك ، وإن لم يتيقن بذلك ، ولا تحقق عنده ما خوف به ؛ حتى يستعدّ لذلك ، ويتهيأ وإن كان على شك من ذلك وظن ؛ فعلى ذلك هؤلاء خوفوا بالنار وأنواع العذاب ، وإن كانوا شاكين في ذلك غير مصدّقين ؛ لما يجوز أن يهابوا ذلك ، أو أن يخوف بذلك المؤمنين ؛ كقوله : { فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ } [ البقرة : 24 ] ، وقوله : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الذاريات : 55 ] . أو أن يكون التخويف لمن آمن منهم بالبعث ؛ [ لأن ] منهم من قد آمن بالبعث والجزاء والثواب . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِي سَمِّ ٱلْخِيَاطِ } [ هذا على الإياس أنهم لا يدخلون أبداً الجنة كما لا يدخل ما ذكر في سمّ الخياط فإنه لا يدخل أبداً ثم قوله : حتى يلج الجمل في سم الخياط ] . قال بعضهم : حتى يدخل البعير في خرق الإبرة . وقال ابن عباس - رضي الله عنه - : حتى يدخل الجمل الذي يشد به السفينة في خرق الإبرة . وقال أبو عوسجة : يعني خرق الإبرة أو المسلة ، والجمل : الحبل ، والخياط : الإبرة أو المسلة . وقال ابن عباس - رضي الله عنه - : ليس بالجمل ذي القوائم [ ولكنه الجمل ] يعني : القلس . وقال ابن مسعود : هو الجمل ذو القوائم الأربع ، والله أعلم بما أراد . وقوله - عز وجل - : { وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُجْرِمِينَ } . أي : كذلك نجزي كل مجرم . وقوله - عز وجل - : { لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ } . قيل : الفرش . { وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } . هي اللحف أو الحواشي ، ما يتغشاهم فيه النار تحيط بهم من تحت ومن فوق وأمام وخلف ؛ كقوله : { أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [ الزمر : 24 ] ، أي : لا يتقي لما يحيط بهم العذاب ، وهو كقوله - تعالى - : { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ … } الآية [ الزمر : 16 ] ، أخبر أن النار تحيط بهم ؛ فعلى ذلك الأول ، والله أعلم .