Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 85-93)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } . هو ما ذكرنا فيما تقدم ، أي : أرسلنا شعيباً إلى مدين رسولاً . وقوله : { أَخَاهُمْ } قد ذكرنا فيما تقدم الأخوة وأنها تكون لوجوه : أخوة النسب ، وأخوة الجوهر ، وأخوه المودة والخلة ، وأخوة الدين ، فلا تحتمل أخوة الأنبياء أولئك أخوة الدين والمودة ، لكن تحتمل أخوة الجوهر والنسب . وقوله - عز وجل - : { قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } . قد ذكرنا - أيضاً - أن الرسل إنما جاءوا ، وبعثوا بالدعاء إلى توحيد الله ، والعبادة له ، وأن لا معبود يستحق العبادة سواه . وقوله - عز وجل - : { قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } . قال بعضهم : كانت نفس شعيب بينة وحجة لقومه لكنا لا نعلم ذلك ، غير أنا نعلم أنه كانت معه آيات وبراهين ، لكن الله لم يبين لنا ذلك ، ونفس محمد صلى الله عليه وسلم كانت حجة وبينة بالأعلام التي جعلت له في نفسه ؛ من ذلك الختم الذي كان بين كتفيه ، والنور الذي كان في وجه من كان في صلبه وقت كونه فيه ، والضوء الذي رُوِيَ أنه كان وقت ولادته ، والغمام الذي أظله وقت غيبته عن أهله ، وحفظه نفسه عن جميع ما كان يتعاطاه قومه من عبادتهم الأصنام وتعاطيهم الفواحش ، فهو صلى الله عليه وسلم كان بريئاً من ذلك كله ، ولم يؤخذ عليه كذب قط ، وقد كان نشأ بين أظهرهم ، وغير ذلك من الأعلام التي كانت في نفسه ظاهرة لقومه ، فلو لم يكن له آيات غيرها ، لكانت واحدة منها كافية لمن لم يكابر ، فكيف وقد كانت له آيات حسِّية وعقلية سوى ما ذكرنا تقهر المنصفين على قبولها ! ويحتمل قوله : { قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } أي : حجة على أنه رسول أو على توحيد الله . وقوله - عز وجل - : { فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ } وذكر في هود في قصته : { وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ } [ هود : 85 ] ، وليس في قوله : { فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ } أنهم كانوا لا يوفون [ ولكن فيما ذكر ] في سورة هود . { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } . ودل قوله : { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } أن الأشياء ملك لهم ، وإن كانت في قبض أولئك ، وفي أيديهم ، ثم يحتمل الأمر بإيفاء الكيل والميزان وجوهاً : أحدها : لما كانوا أمناء ؛ لئلا تذهب عنهم تلك الأمانة التي كانت لهم في قومه . والثاني : لئلا يظلموا الناس في منع حقوقهم وأموالهم . والثالث : للربا ، كأن ما منعوا منه من الكيل والوزن ربا لهم ، يدل على ذلك قوله : { بِٱلْقِسْطِ } [ هود : 85 ] ذكر العدل ، فلو كان يجوز تلك الزيادة والنقصان إذا طابت أنفسهم بالزيادة والنقصان ، لكان لا معنى لذكر القسط فيه ؛ لأن من زاد آخر على حقه لم يمنع عن ذلك ، ولم يذم ، دل النهي عن ذلك على أنه للربا ما منعوا [ عن ذلك ] والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } . أي : بعد أن جعلها لكم صالحة لمعاشكم ومقامكم فيها ، أو بعد ما أمر وبين لكم ما به صلاحكم وصلاح دينكم ، أو بعد ما أرسل من الرسل ما بهم صلاح الأرض وأهلها . { ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ } . قال بعض أهل التأويل : قوله : { ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ } ، أي : وفاء الكيل والميزان خير لكم من النقصان ؛ لما ينمو ذلك الباقي ويزداد ، فذلك خير لكم من النقصان الذي تمنعون ، فلا ينمو شيئاً ، وهو كقوله : { بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ هود : 86 ] . ويحتمل : { ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } ، أي : أمنكم في الآخرة خير لكم من نقصان الكيل والميزان في الدنيا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ } . يحتمل ما قاله أهل التأويل : إن كبراء أهل الشرك ورؤساءهم كانوا يُقعدون في الطرق أناساً يصدون الذين يأتون شعيباً للإيمان من الآفاق والنواحي ، ويكون [ معنى ] قوله : { مَنْ آمَنَ بِهِ } على هذا التأويل ، أي : من أراد أن يؤمن به . ويحتمل قوله : { وَلاَ تَقْعُدُواْ } ليس على القعود نفسه ، ولكن على المنع من إقامة الشرائع التي شرع الله لشعيب ؛ كقول إبليس : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الأعراف : 16 ] ، ليس هو على القعود نفسه ، ولكن على المنع ؛ يمنعهم عن صراطه المستقيم ، فعلى [ ذلك ] قوله : { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ } كانوا يمنعون من آمن به عن إقامة الشرائع والعبادات التي دعوا إلى إقامتها ، ويوعدون على ذلك ويخوفونهم ؛ فعلى هذا التأويل يكون معنى قوله : { مَنْ آمَنَ بِهِ } على وجود الإيمان ، وعلى التأويل الأول يكون : من أراد أن يؤمن به ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً } . قيل : تلتمسون لها أهل الزيغ . وقيل : تبغون هلاكاً للإسلام ، وإبطالاً . وقيل : تبغون السبيل عوجاً عن الحق ، وكله واحد . وقوله - عز وجل - : { وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ } . يحتمل [ وجهين ] : إذ كنتم قليلاً في العدد ، فكثر عددكم زمن لوط ، كأنهم إنما توالدوا من بقية آل لوط . ويحتمل : إذ كنتم قليلاً في الأموال والسعة في الدنيا فكثركم ، أي : كثر لكم الأموال ووسع عليكم الدنيا . وقوله - عز وجل - : { وَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } . أمر بالنظر فيما حل بالأمم الخالية بإفسادهم في الأرض ، وتكذيبهم الرسل ؛ لأن من نظر في ذلك ، وتفكر فيما حل بهم منعه ذلك عن الفساد في الأرض والتكذيب للرسل ؛ إذ علم أن ما حل بهم إنما حل بهم لما ذكر ، والله أعلم . كأنه أمر بالنظر في الأسباب التي صار [ بها ] من تقدمهم أهل فساد ، ونزل بهم الهلاك لينزجروا عن مثل صنيعهم ، وإلا كانوا عند أنفسهم أهل صلاح لا أهل فساد . وقوله - عز وجل - : { وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِٱلَّذِيۤ أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَٱصْبِرُواْ } . قال ابن عباس - رضي الله عنه - : كان قوم شعيب قليلاً حين أدرك ذلك [ شعيب ] ، وقوم آخرون معه يقول لهم ذلك شعيب عليه السلام ، وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به ، وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا يا معشر المؤمنين ، { حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا } : يقضي عليهم بالهلاك ، ولم يكن شعيب أمر بالقتال . وقال بعضهم : قوله : { وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ } ، يعني المؤمنين ، { آمَنُواْ بِٱلَّذِيۤ أُرْسِلْتُ بِهِ } : من العذاب ، { وَطَآئِفَةٌ } : يعني الكفار ، { لَّمْ يْؤْمِنُواْ } : بالعذاب ، { فَٱصْبِرُواْ } : يا معشر الكفار ، { حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ بَيْنَنَا } : في أمر العذاب في الدنيا ، { وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ } ويحتمل غير هذا ، وذلك أنهم كانوا يعبدون الأصنام ، ويقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 30 ] ، ويقولون : الله أمرهم بذلك في أشياء يفعلونها ، ويقول هؤلاء : إنّ الذي نحن عليه هو الذي أمرنا الله بذلك ، فيقول لهم : اصبروا حتى يحكم الله بيننا بأنه بماذا أمر : بالذي عليه الكفار ، أم بالذي نحن عليه . وقوله - عز وجل - : { قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ } قد ذكرنا في غير موضع أن الملأ من قومه هم كبراؤهم ورؤساؤهم . وقوله - عز وجل - : { ٱسْتَكْبَرُواْ } [ أي استكبروا ] عن الخضوع والطاعة لمن هو دونهم عندهم ؛ لأنهم كانوا يضعفون شعيباً فيما بينهم ويزدرونه كقولهم له : { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } [ هود : 91 ] ثم لم يروا الأمر بالخضوع لمن هو دونهم في أمر الدنيا عدلاً ، وهم إنما أخذوا من إبليس اللعين وإياه قلدوا حيث قال : { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ } [ الأعراف : 12 ] حين أمر بالسجود لآدم ، ولم ير اللعين الأمر بالخضوع لآدم من الله عدلاً ، فعلى ذلك هؤلاء لم يروا الخضوع لمن دونهم عندهم عدلاً ؛ فاستكبروا عليه ، فكفروا لذلك . وقوله - عز وجل - : { لَنُخْرِجَنَّكَ يٰشُعَيْبُ } . قال الحسن : لنخرجنك ، أي : لنقتلنك ، والذين آمنوا معك من قريتنا . وقال غيره : لنخرجنك : الإخراج نفسه ، أي : نخرجنك ومن معك من المؤمنين من قريتنا إن لم تتبع ديننا ، وقد كان منهم للأنبياء المعنيين جميعاً التوعد بالقتل والإخراج جميعاً ؛ كما قال : { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ } [ هود : 91 ] ، وكقول قوم لوط للوط : { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يٰلُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُخْرَجِينَ } [ الشعراء : 167 ] وكقول قوم نوح : { لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمَرْجُومِينَ } [ الشعراء : 116 ] ، وما أخبر عن قول هؤلاء لرسولنا حيث قال : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } [ الأنفال : 30 ] قد كان من القوم إلى الأنبياء والرسل - عليهم السلام - المعنيان جميعاً التوعد بالقتل والإخراج جميعاً ؛ فعلى ذلك يحتمل ذلك من قوم شعيب ما ذكرنا ، والله أعلم . وكذلك كانوا يقولون للرسل جميعاً ؛ حيث قالوا : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُمْ … } [ إبراهيم : 13 ] الآية ، هكذا كانت عادة جميع الكفرة [ أنهم ] كانوا يخوفون الرسل بالإخراج مرة وبالقتل مرة ثانية . وقوله - عز وجل - : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } . يحتمل قوله : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } لما عندهم أنه كان على دينهم الذي هم عليه لما لم يروا منه عبادته لله فيما [ عبده ] سرّاً ، فقالوا : { لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } على ما كان عندهم أنه على ذلك ؛ وهو كما قالوا لصالح : { قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـٰذَا } [ هود : 62 ] كان عندهم أنه على دينهم قبل ذلك ، فعلى ذلك يحتمل قول هؤلاء لتعودن من العود إلى ما كان عندهم أنه على ذلك . ويحتمل على ابتداء الدخول فيها والاختيار ؛ كقوله : { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [ البقرة : 257 ] . على منع الدخول فيها ؛ لا أنهم كانوا فيها ، ثم أخرجهم فعلى ذلك الأوّل . وقوله - عز وجل - : { قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } . يقول : لنعودن في ملتكم ، وإن كنا كارهين ، أي : [ قد ] تأبى عقولنا ، وتكره طباعنا من الدخول في ملتكم فكيف نعود فيها ؟ { قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا } . يحتمل قوله : { إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ } وجوهاً ثلاثة : أحدها : أن ذلك منه إخبار عن قومه لا عن نفسه ، أي : افتروا على الله كذباً إن عادوا في ملتكم بعد إذ نجاهم الله منها ، وما يجوز لهم أن يعودوا فيها ، وأما هو فإنما أجابهم عن نفسه بما ذكر في سورة هود : { وَيٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَٰمِلٌ } [ هود : 93 ] ، أجاب هو قومه كما أجاب غيره من الرسل قومهم حين أوعدوهم بالقتل والعقوبة ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثم كيدون فلا تنظرون " ، [ وكما قال هود : { أَنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } [ هود : 54 - 55 ] ونحو ذلك من الجوابات التي كانت من الأنبياء - عليهم السلام - لأقوامهم . ويحتمل أن يكون على الابتداء من غير أن كان فيها ؛ كقوله : { رَفَعَ ٱلسَّمَاوَاتِ } [ الرعد : 2 ] رفعها ابتداء من غير أن كانت موضوعة ، وكقوله : { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [ البقرة : 257 ] إخراج ابتداء لا أن كانوا فيها ثم أخرجهم . ويحتمل ما ذكرنا أنه أجابهم على ما عندهم أنه كان على دينهم ، فأجاب لهم على ما عندهم أنه على ذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ } أي : ما يجوز لنا أن نعود فيها ، وقول شعيب : { قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ } تعريض تسفيه منه إياهم أنكم قد افتريتم على الله كذباً لا تصريح ؛ حيث لم يقل : قد افتريتم أنتم على الله كذباً ، قال : { قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ } ، وذلك منه تلطف بهم وترقق . وقوله - عز وجل - : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } . اختلف في تأويله : قال الحسن : من حكم الله - عز وجل - أن من قبل دينه وأطاع رسوله أن يكون وليّاً له ، وسمى مؤمناً ، ومن رد دينه وعصى رسوله يتخذه عدوّاً له ، ويكون كافراً . وقال أبو بكر الكيساني : قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا } : أن يتعبدنا ، ويمتحننا ببعض ما كانوا يتقربون به . ويشرع لهم ما يحل ويسع ، لم يرد به الدين [ الذي هم ] عليه ، لكن هذا لا يحتمل ؛ لأن سؤالهم كان العود إلى ملتهم ، فعلى ذلك خرج الثنيا . وقال أبو جعفر بن حرب : قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } : إلا أن يأمرنا الله بما يؤيسهم بذلك على الإياس ، وقطع الرجاء ، أي : لا يشاء الله ألبتة ذلك ؛ كما يقال : كان كذا إن صعدت السماء ، وكقوله : { حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِي سَمِّ ٱلْخِيَاطِ } [ الأعراف : 40 ] ، فعلت كذا ، مما يعلم أنه لا يكون ؛ فعلى ذلك هذا كله بعيد محال . أما قول الحسن : إن من حكم الله أنه من ردّ دينه وعصى رسوله ، أنه يكون من الكافرين ، ومن قبل دينه وأطاع رسوله ، يكون من المؤمنين ، فليس فيه سوى أنه يقول : إنه يعلم من كفر به ومن آمن به ، فلا معنى للاستثناء لو كان التأويل ما ذكر . وأما قول أبي بكر : إنه يتعبدهم ويمتحنهم بما يتقربون في دينهم وملتهم مما يجوز أن يأذن في ذلك ، فذلك لا يحتمل ؛ لأنه ذكر الملة التي كانوا هم عليها ، فإليها ترجع الثنيا لا يجوز [ أن تصرف الثنيا ] إلى غيرها . وأما قول من يقول بالإياس وقطع الطمع عن ذلك : فذلك - أيضاً - بعيد ؛ لأن الإياس إنما يكون فيما يعلم أنه لا يكون ألبتة من نحو ما ذكر من قوله : { وَلاَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِي سَمِّ ٱلْخِيَاطِ } [ الأعراف : 40 ] ونحوه ، وأمّا مثل هذا فإنهم لا يفهمون منه الإياس وقطع الرجاء ، بل كانوا يأتون بالفواحش ، ويقولون : الله أمرهم بذلك ، فأنَّي يقع لهم الإياس بذلك ؟ ! وأمّا عندنا فإنه على حقيقة المشيئة ، وذلك أن مَن علم الله منه أنه يختار الكفر ، ويؤثر ذلك على فعل الإيمان والطاعة - يشاء ذلك له على [ ما ] علم أنه يختار ، ومن علم منه أنه لا يختار ذلك لا يشاء ؛ إذ لا يجوز أن يعلم منه غير الذي يكون أو أن يشاء غير الذي علم أنه يكون منه ؛ لأنه جهل وعجز . وأصله : أن شعيباً خاف أن تسبق منه زلة ويصير منه الاختيار لذلك فيشاء الله بذلك الزيغ والضلال ، وكذلك جميع الأنبياء خافوا ذلك ؛ كقول إبراهيم - عليه السلام - حيث قال : { وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً } [ الأنعام : 80 ] وقول يوسف حيث قال : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ } [ يوسف : 76 ] كان خوف الأنبياء - عليهم السلام - أكثر من خوف غيرهم . وقوله - عز وجل - : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } . معناه - والله أعلم - أنه لا نعلم إلى ماذا تصير عاقبة أمرنا ، وعلم الله . وقوله - عز وجل - : { عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا } . قيل : على الله اعتمدنا فيما تخوفُنَّنا من الإخراج ، وإليه نلجأ في سلطانه وملكه ، وبه نثق في وعده بما يعدنا من النصر والظفر على الأعداء . وقوله - عز وجل - : { رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ } . قيل : قوله : { ٱفْتَحْ } ، أي : احكم بيننا وبين قومنا بالحق . روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : ما كنت أعلم ما معنى الفتح في الآية حتى تزوجت امرأة من بني كذا ، فوقعت بيننا مخاصمة ، فقالت لي : تعال حتى أفاتحك إلى فلان ، فعند ذلك عرفت أن المفاتحة هي المحاكمة . وقوله : { بِٱلْحَقِّ } قيل : هو العذاب الذي كان وعد لهم أن ينزل عليهم بتكذيبهم شعيباً وبأذاهم إياه . ثم [ ليس ] للمعتزلة أدنى تعلق بقوله : { رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ } ، يقولون : هو الدعاء والسؤال ، وإن كان لا يحكم إلا بالحق ، فعلى ذلك يقولون في قوله : { رَبِّ ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ } [ الأنبياء : 112 ] ونحوه وكذلك يقولون في قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } لكن عندنا يخرج قوله : { ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ } [ الأنبياء : 112 ] و : { رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ } على وجوه : أحدها : يقول : ربنا افتح بيننا بحكمك وهو الحق . والثاني : يقول : رب احكم بالحق في حادث الوقت كما حكمت في الوقت الماضي ، وهو كقوله : { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الفاتحة : 6 ] وهو النبوة والهداية . والثالث : على استعجال العذاب . وقوله - عز وجل - : { وَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ } . قد ذكرنا أن الملأ هم كبراؤهم وسادتهم ، يقولون للأتباع والسفلة : { لَئِنِ ٱتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } . قال أبو بكر : لجاهلون . ثم يحتمل قوله : { إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } وجوهاً : أحدها : أن شعيباً كان يحذر قومه بالتطفيف في الكيل والوزن ، ويأمرهم بوفاء حقوق الناس ، بقوله : فأوفوا الكيل ولا تكونوا كذا . وقوله - عز وجل - : { وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ } [ هود : 85 ] ، فيقول الكبراء والرؤساء للسفلة : لئن اتبعتم شعيباً في دينه وما يأمركم به من وفاء الحق للناس ، فإنكم إذاً لخاسرون للأرباح . والثاني : أنه كان يحذرهم ويمنعهم عن عبادة الأصنام والأوثان ، ويدعوهم إلى عبادة الله ، ويرغبهم في ذلك ، وهم كانوا يعبدون تلك الأصنام لتقربهم عبادتهم إياها إلى الله زلفى ، وتكون لهم شفعاء في الآخرة ، فقالوا : لئن اتبعتم شعيباً فيما يدعوكم إليه وينهاكم عنه ، لكنتم من الخاسرين ، لا شفعاء لكم في الآخرة . والثالث : أنهم كانوا يوعدون شعيباً بالإخراج بقولهم : { لَنُخْرِجَنَّكَ يٰشُعَيْبُ } فقالوا : { لَئِنِ ٱتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً } وهو يخرج لا محالة فتخرجون أنتم فصرتم من الخاسرين ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ } . قيل : الصيحة . وقيل : الزلزلة . قيل : أصابهم حرّ شديد ، فرفعت لهم سحابة ، فخرجوا إليها يطلبون الروح تحتها [ فلما كانوا تحتها ] سال عليهم العذاب ، ورجفت بهم الأرض ، فهلكوا ، وهو ما ذكر في آية أخرى عذاب يوم الظلة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } . قد ذكرنا قوله : { جَاثِمِينَ } فيما تقدم . وقوله - عز وجل - : { ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ ٱلْخَاسِرِينَ } . هو - والله أعلم - مقابل قولهم : { لَئِنِ ٱتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } وجواب لهم يقول : الذين كذبوا شعيباً هم الخاسرون لا الذين اتبعوه . وقوله - عز وجل - : { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } . قيل : كأن لم يعيشوا فيها ، ولم ينعموا قط . وقيل : كأن لم يقيموا فيها . قال القتبي : يقال : غنينا بمكان كذا وكذا ، أي : أقمنا ، ويقال للمنازل : مغان ، واحدها : مغنى ، ويقال : كأن لم يغنوا فيها ، أي : كأن لم يكونوا فيها قط . وهو - والله أعلم - لما كانوا يستقلون نعم الله عليهم ، ويستحقرونها ، حتى قالوا : لبثنا يوماً أو بعض يوم ، وقوله : { كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ ٱلنَّهَارِ } [ يونس : 45 ] ونحوه ، وكله إخبار عن قطع آثارهم أنه لم يبق منهم أحد يحزن عليهم أو يبكي عليهم ، حتى قال شعيب : { فَكَيْفَ ءَاسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَٰفِرِينَ } . وجائز أن يكون قول شعيب حيث قال : { فَكَيْفَ ءَاسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَٰفِرِينَ } [ الأعراف : 93 ] حين علم أنهم يهلكون ، وينزل بهم العذاب ، أي : لا أحزن عليهم [ على ] ما ذكر . وقال بعضهم : هو على التقديم والتأخير ، قال ذلك في الوقت الذي قال : { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ } يقول : كيف أحزن على قوم وعملهم ما ذكر . وقوله : { فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ } . حين رآهم هلكى ، فقال : فكيف آسى على قوم ، أي : كيف أحزن على قوم قد كذبوني ، واختاروا عداوتي ، وصاروا علي أعداء ، فكيف أحزن عليهم بالهلاك ، وهم أعدائي . وقوله : { يٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَـٰلَـٰتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ } . قد ذكرنا هذا .