Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 75, Ayat: 20-25)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ } . فقوله : { كَلاَّ } ردع ومنع عما سبق منهم . وفي قوله : { بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ } إبانة أن الذي حملهم على ما هم فيه من الحسبان : أن العظام لا تجمع ، وأن البعث ليس بشيء - حبهم العاجلة ، وذلك أنهم أولعوا بالعاجلة ، وأحبوها حبا أنساهم عن الإيمان بالآخرة ، أو عن النظر في الحجج والبراهين التي لو أمعنوا النظر فيها أدتهم إلى القول بالبعث ، وحتى صاروا إلى ألا يرجوا الآخرة كقوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا … } الآية [ يونس : 7 ] . وقوله - عز وجل - : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } : ففيه بيان ما ينتهي إليه عواقب من التزم طاعة الله تعالى ، وآمن بالبعث والحساب ، وبيان ما ينتهي إليه عواقب من تولى عن طاعته ؛ فقوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } جائز أن يكون أريد بها نفس الوجوه . وجائز أن يكون أريد بها الأنفس ، وتكون الوجوه كناية عنها ، والذي يدل على أنه أريد بها الأنفس لا أعينها قوله : { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } ، والوجوه لا تظن ذلك ، ولا تعلم به ، فثبت أن ذكر الوجوه على الكناية ، لا أن أريد بها أعينها ، فهذا التأويل أوفق بما يقتضيه ظاهر اللفظ ، وإنما صلح أن تكون الوجوه كناية عن الأنفس ؛ وذلك أن النفس إذا تلذذت بأمر ، ونالت شهوتها ، ظهر سرور ذلك في وجهه ، وإذا تألمت بأمر فاعتراها الحزن ، ظهر أثر الحزن في وجهه ؛ فيكون في قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } وصف لهم بما هم عليه من غاية السرور بالكرامات التي أكرموا بها حتى نضرت وجوههم بذلك . وإذا ثبت أنهم قد نالوا الكرامات ، ووصلوا إلى أنواع اللذات ، لم يبق لقوله : { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } موضع ، إلا أن يصرف إلى حقيقة النظر ؛ فيكون في هذا إثبات القول بالرؤية . والثاني : أن الملوك الذين من عادتهم الاحتجاب عن الخلق ، إذا قربوا إنسانا لم يحتجبوا عنه ، ويكون تركهم الاحتجاب آثر إلى ذلك الذي أكرم بالتقريب من سائر ما يكرمه به ؛ فجائز أن يكون الله تعالى يكرم أولياءه بالنظر إليه ، ويتفضل عليهم بذلك . وجائز أن يكون قوله : { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } منصرفا إلى انتظار الثواب ؛ كما قاله بعض أهل التأويل ، فتنتظر ما يأتيها من التحف والكرامات حتى وصفوا بنضارة الوجوه ؛ فجائز أن يكون بعد تلك الكرامات [ كرامات ] وتحف أخر لم تأتهم بعد ؛ ألا ترى إلى قوله : { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } والبسور من أدنى أحوال التغير ، وغاية التغير أن تسود الوجوه وتكلح ؛ فإذا لم يحل بهؤلاء بعد غاية ما أوعدوا من العذاب ، فجائز أن يكون الذين وعد لهم الكرامات لم ينتهوا بعدُ إلى أقصاها ، ولم ينالوا بعد أرفعها ؛ وإنما أكرموا ببعضها ، وهم منتظرون لما يأتيهم من بعد . وجائز أن يكون قوله : { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } ، أي : نجعل نظرها فيما أكرمت إلى الله تعالى ، ولا ترى ذلك الفضل مستوجبا من جهتها كما قد يرى المرء في الشاهد بعض ما خول من المال بحيله وسعيه ، والله أعلم . وجائز أن يكون قوله : { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } ، أن ليس كل الكرامات في نفسه خاصة وإلى ما ينتهي إليه نظره ؛ بل يكون وراء ذلك كرامات أخر ، فينصرف قوله : { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } إلى ذلك . ويحتمل : أي : إلى أمر ربها ناظرة . وإذا كان قوله : { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } محتملا أن يصرف إلى حقيقة النظر ، ويصرف إلى الكرامات من الوجوه التي بيناها - لم يكن لأحد أن يجعل الأمر على الكرامات ، فينفي عنه حقيقة الرؤية للأبد ؛ لا بل ظاهره يُحِيلُ القول بالرؤية ؛ فيدفع هذا التأويل بتلك الدلائل . فأما إذا لم يمكنه إقامة الدلائل على إحالة الرؤية ، فليس له قطع هذا التأويل ، وصرف التأويل إلى انتظار الكرامات ؛ فيكون الآية حجة في جواز الرؤية ، [ و ] إن لم تكن حجة في الوجوب ، والخلاف فيهما واحد . واحتج من نفى صرف التأويل إلى حقيقة الرؤية بأن قوله : { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } هو مقابل قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } ، وقوله : { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } مقابل قوله : { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } ثم لم يكن قوله : { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } على فقد الرؤية ، ولكن على العقاب نفسه ؛ فكذلك قوله : { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } ليس هو على حقيقة الرؤية ووجودها ؛ ولكن واقع على الثواب نفسه . وجواب هذا الفصل من وجهين : أحدهما : أن أهل العقاب بعد لم ينزل بهم جميع ما أوعدوا في هذه الدنيا من العقاب ، لما ذكرنا أن نهاية العذاب في تسود الوجوه وتكلحها ، ليس في بسورها ؛ فلذلك استقام أن يكون قوله : { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } على نفس العذاب ، وأهل الجنة قد وصلوا إلى رفيع الدرجات وعظيم الكرامات بما وصفوا بنضارة الوجوه ؛ فاستقام أن يكون قوله : { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } منصرفا إلى حقيقة النظر ، لا إلى غيره من الكرامات . ولأن الرؤية من أعلى الكرامات وأرفعها ، وأهل العقاب لم ينالوا أدنى الكرامات ، فكيف يتوقعون أرفعها ؟ ! أما أهل الجنة فهم قد نالوا من النعم والكرامات ما لا يحصى ؛ فجائز أن يكرموا بالرؤية أيضا . والأصل أن القول بالرؤية عندنا واجب ، والنظر إليه ثابت ؛ كما قال - عز وجل - ولما جاء في غيرِ خبرٍ النظرُ إلى الله تعالى ، وقد قال - عليه السلام - : " إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضارون في رؤيته " وأهل التوحيد لم يختلفوا في صحة الأخبار التي جاءت في إثبات الرؤية ، ولكن من نفى الرؤية بالبصر صرف الأخبار إلى العلم ، وذلك غير مستقيم لوجهين : أحدهما : أن البشارة بالرؤية خص بها أهل الجنة ، ولو كان المراد من الرؤية العلم ، لارتفع الاختصاص ؛ لأن العلم به مما يقع به الاشتراك بين الفريقين . ولأن كلا يجمع على العلم بالله تعالى في الآخرة ، العلم الذي لا يعتريه الوسواس ولا الريب ، والعلم الذي لا يعتريه الوسواس والريب هو علم العيان والمشاهدة ، لا علم الاستدلال ؛ لأن الآيات لا تضطر أهلها إلى العلم الحقيقي ؛ ألا ترى إلى قوله : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ … } [ الأنعام : 111 ] ، وقال : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ، وقال : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ } [ المجادلة : 18 ] ، فإذا ثبت ما ذكرنا ، فقد صاروا مثبتين للرؤية من الوجه الذي أرادوا نفيها ؛ فتثبت الرؤية على نفي جميع معاني الشبه عن الله تعالى ، ولا نصف الرؤية بالكيفية ؛ إذ الكيفية تكون لذي صورة ؛ وهو يُرى بلا كيف ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } جائز أن يكون الظن في موضع العلم هاهنا . وجائز أن يكون على حقيقة الظن ، وذلك أن الظن يتولد من ظواهر الأشياء ، فالأسباب إذا كثرت ، وازدحمت ، وقع بها العلم ، وإذا قلت وخفيت ، لم يقع بها علم ؛ فجائز أن تكون أسباب الشر أحاطت به من كل جانب حتى وقع له اليأس من النجاة ، وأيقن أنه يفعل به الشر . وجائز أن يكون الأمر بعد لم يبلغ مبلغ الإياس ؛ فيتوقع النجاة ، ولا يتيقن أن يفعل به فاقرة ، بل يكون منه على ظن ، والله أعلم . والفاقرة : قيل : الشر ، والمنكر ، والداهية . وقيل : الفقير : هو كسير الظهر ، والفقر : الكسر ، والفقار : عظم في الظهر يكسر ، فكأن عظم الظهر يكسر في الآخرة ويسحب في النار على وجهه . قال - رحمه الله - : كأن هذه السورة من أولها إلى آخرها إلا آيات منها ؛ وهي قوله : { بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ ٱلآخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } - نزلت في تبيين معاملة واحد من الكفرة على الإشارة إليه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يشترك في حكم من يشاركه في معاملته ، فأمر الله تعالى نبيه - عليه السلام - أن يعامله ويستقبله بالذي يحق على الحكماء معاملة السفهاء ، ولم يأمره أن يعامله معاملة مثله من السفهاء ، وبين معاملَته في هذه السورة ؛ ليعلم أمته ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجهد والبلاء في إظهار دين الله تعالى ، فيعلموا قدره ومنزلته ، ويعظموا دين الله تعالى بما نالوه سمحا سهلا ، وأمره أن يتعامل معه معاملة من يرجع إلى المنعة والشوكة بقوله : { أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ * ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ } [ القيامة : 34 - 35 ] ، والله أعلم .