Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 16-18)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ } . وأيضاً قوله : [ { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 142 ] وقوله أيضاً ] : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } الآية [ البقرة : 214 ] ، وقوله : { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ … } الآية [ العنكبوت : 2 ] هذه الآيات كلها في المنافقين الذين أظهروا الإيمان باللسان ، وأروا المؤمنين الذين حققوا الإيمان وأخلصوا الإسلام الموافقة لهم ، فقال : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ } على ما أظهرتم من الإيمان باللسان فلا تبتلون بالقتال ؛ جعل الله - تعالى - القتال مع الكفرة - والله أعلم - وأمر به لمعنيين : أحدهما : تطهيراً للأرض من الكفر ؛ كقوله - تعالى - : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله } [ الأنفال : 39 ] . والثاني : امتحاناً للمنافقين ؛ ليبين نفاق من أظهر الإيمان باللسان مراءاة ، وصدق من أظهره حقيقة ؛ ليعرف المحق المخلص من المنافق المرائي ؛ لأن القتال هو أرفع أعلام يظهر بها نفاق المنافق ؛ لأنهم إنما كانوا يظهرون الموافقة لهم ؛ طمعاً في الدنيا ؛ لتسلم لهم المنافع التي كانوا ينتفعون بها ، وفي الأمر بالقتال خوف الهلاك ، فإذا خافوا الهلاك على أنفسهم امتنعوا عنه ؛ كقوله : { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا } الآية [ الأحزاب : 18 ] ؛ خوفاً وإشفاقاً على أنفسهم ؛ لما ذكرنا أنهم إنما كانوا يظهرون الإيمان باللسان ؛ ليسلم لهم ما طمعوا من المنافع ؛ كقوله : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ } الآية [ الحج : 11 ] ، هذا وصف المنافق . وأما المؤمن المحق للإيمان ، المخلص للإسلام : فإنه يسلم نفسه لله في جميع أحواله ، وإن كان فيه تلف نفسه ؛ لما لم تكن عبادته لله على حرف ووجه كالمنافق ، ولكن على الوجوه كلها ، والأحوال جميعاً ، عبادته تكون لله ، لا يمنعه خوف الهلاك عن القتال ؛ بل نفسه تخضع لذلك وترضى ، ولا كذلك المنافق . وقد ذكرنا أن حرف الاستفهام من الله يكون على الإيجاب والإلزام . ثم قوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ } يحتمل وجهين : أحدهما : أي : قد حسبتم أن تتركوا على ما أظهرتم من الموافقة والخلاف في السر ، ولا تبتلون وتمتحنون بما يظهر منكم ما أضمرتم ، فلا تحسبوا ذلك . والثاني : { أَمْ حَسِبْتُمْ } أي : لا تحسبوا أن تتركوا على ذلك ، ولا تمتحنوا بالجهاد والقتال . أحد التأويلين يخرج على النهي ، والثاني على الإخبار عما حسبوا ، وعما عندهم . ثم قوله : { وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ } [ آل عمران : 142 ] . أي : ليعلم من قد علم أنه يجاهد مجاهداً ، ويعلم ما قد علم أنه يكون كائناً ، لا على حدوث علمه بذلك ؛ إذ هو موصوف بالعلم بكل ما يكون في وقت ما يكون على ما يكون ؛ فيكون قوله : ليعلم المجاهدين من كذا ، وليعلم الصابرين من كذا ؛ أي : ليعلم من قد علم أنه يجاهد مجاهداً ، وليعلم ما قد علم أنه يكون كائناً ؛ لأنه لا يجوز أن يوصف الله بالعلم بما ليس يكون أنه يعلمه كائناً ، كما لا يجوز أن يوصف أنه يعلم من الجالس القيام في حال جلوسه ، ومن المتحرك السكون في حال حركته ، ومن المتكلم السكوت في حال كلامه ، إنما يوصف بالعلم على الحال الذي عليه الخلق ، لا يوصف بالعلم في حال غير الحال الذي هو عليه ، والله الموفق . ويحتمل هذا وجهاً آخر : أن فيما أضاف العلم إلى نفسه كان المراد منه أولياؤه ؛ كقوله : { إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ } [ محمد : 7 ] ، أي : إن تنصروا أولياءه ينصركم ، أو إن تنصروا دينه ينصركم ، أو إن تنصروا رسوله ينصركم ؛ فعلى ذلك قوله : { وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ } [ آل عمران : 142 ] ، أي : ليعلم أولياءه المنافق المرائي ، والمؤمن المحقق المخلص ، وليبين لهم ، كقوله : { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ } [ البقرة : 9 ] أي : يخادعون أولياءه إذ الله لا يخادع ولا ينصر ؛ إذ هو ناصر كل أحد ، ولا يخفى عليه شيء ، عالم بما يكون في وقت ما يكون . أو أن يكون المراد من العلم الذي ذكر المعلوم ، وذلك جائز في اللغة جار ، وفي القرآن كثير . وقوله - عز وجل - : { وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً } . أي : لم يجدوا ملجأ يلجئون إليه من دون ما ذكر ، ولو وجدوا ذلك لاتخذوا ذلك ، ولكن لما لم يجدوا لم يتخذوا ؛ كقوله : { وَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً } [ الآية [ التوبة : 56 - 57 ] ؛ أخبر أنهم لو وجدوا ملجأ يلجئون إليه لولوا ، ولا يظهرون ذلك . وقوله : { وَلِيجَةً } قال بعض أهل الأدب : الوليجة : البطانة من غير المسلمين ، وأصلها من الولوج ، وهو أن يتخذ الرجل من المسلمين دخيلاً من المشركين وخليطاً ودوداً ، وجمعه : الولائج . وقال البعض : الوليجة أصلها من الدخول ؛ كقوله : { حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِي سَمِّ ٱلْخِيَاطِ } [ الأعراف : 40 ] يقال أيضاً : فلان وليجة فلان ، أي : خاصته . وقال بعضهم : الوليجة : الخيانة . وقال بعضهم : الوليجة : ما يلجأ إليه . وقال بعضهم : كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة ؛ وبعضه قريب من بعض . { وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } . هو على الوعيد خرج . وقوله - عز وجل - : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } قال بعض أهل التأويل : نزلت الآية في العباس بن عبد المطلب أنه أسر يوم بدر ، فأقبل ناس من المهاجرين والأنصار ، منهم علي بن أبي طالب وغيره ، وعيروه بالكفر بالله ، والقتال مع النبي ، وقطيعة الرحم ، فقال : ما لكم تذكرون مساوئنا وتذرون محاسننا ؟ ! فقالوا أو لكم محاسن ؟ قال : أي والله ، إنا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب البيت ، ونسقي [ الحاج و ] نفك العاني . فأنزل الله ردّاً عليه . لكن في آخر الآية دلالة أنه لا يحتمل أن تكون في العباس ؛ على ما قالوا ؛ لأنه قال : { أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي ٱلنَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } والعباس قد أسلم من بعد ، فلا يحتمل هذا الوعيد بعد الإسلام . وقال غيرهم من أهل التأويل : قوله : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللهِ } ، أي : ما كان بالمشركين عمارة مساجد الله ، إنما كان بهم خراب مساجد الله ، إن المساجد إنما تعمر بالذكر فيها ، والصلاة وإقامة الخيرات ؛ كقوله : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ } الآية [ النور : 36 ] ، وهم لم يعمروها لذكر اسم الله فيها ، إنما عمروها لذكر الأصنام والأوثان ، فكان بهم خراب المسجد ، لا العمارة . وقال بعضهم : قوله : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللهِ } على ما عندهم ؛ لأن الذي منعهم عن الإيمان بالله حبهم الدنيا وميلهم إليها ، فما ينبغي لهم أن يعمروها وينفقوها ، ويضيعوا أموالهم فيها ، ولا ينتفعوا ، [ أي الذي ] منعهم عن التوحيد والإيمان حبهم الدنيا ، وشهواتهم ، وميلهم إليها ؛ فعلى ما عندهم ما ينبغي لهم أن يعمروها . وقال بعضهم : قوله : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللهِ } أي : ما كان على المشركين أن يعمروا مساجد الله ؛ لأنهم لا ينتفعون بها في الآخرة ، [ و ] لا يؤمنون بالآخرة ، وإنما يقصد بعمارة المساجد والإنفاق عليها الثواب في الآخرة ، وهم لا يؤمنون بها ، فتضيع نفقتهم في ذلك ؛ إذ لا مقاصد لهم ولا منفعة ، إنما ذلك على المسلمين . ويجوز " له " بمعنى عليه ؛ كقوله : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] ، أي : فعليها . وقوله : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللهِ } يحتمل هذا : أي : ما كان بالمشرك عمارة مساجد الله ، إنما تكون عمارته بمن آمن بالله واليوم الآخر ، لا بمن أشرك بالله وكفر بالآخرة . وقوله : { شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } قال بعضهم : { شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ } ، أي : على نفس محمد ومن آمن معه ؛ سماهم أنفسهم ؛ لأنهم من قرابتهم وأرحامهم ، وقد سمى الله المتصلين بهم بذلك ؛ كقوله : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] ، وقوله : { فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ } [ النور : 61 ] ؛ فعلى ذلك الأول يحتمل ما ذكرنا . أو { شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } عند الضرورات عند نزول العذاب بهم ، وعند الهلاك ؛ كقوله : { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } الآية [ غافر : 84 ] ، وغير ذلك من الأحوال التي كانوا يقرون بالكفر [ و ] يرجعون عنه ، شهدوا عليهم بالكفر . وقال بعضهم : قوله : { شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } [ أي أنفسهم ] تشهد بالكفر عليهم ؛ لأن خلقتهم تشهد على وحدانية الله ، وأنفسهم تشهد على فعلهم بالكفر ، وهو ما قال الله - تعالى - : { بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } [ القيامة : 14 ] ، قيل : بل الإنسان من نفسه بصيرة ، أي : بيان من نفسه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أُوْلَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدنْيَا وَٱلآخِرَةِ } [ التوبة : 69 ] إلى آخر الآية . في قوم ماتوا على الكفر . وقوله - عز وجل - : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } . , الوجوه التي ذكرنا في قوله : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللهِ } إن لم يكن عليهم ، فذلك كله على المسلمين أي : عليهم عمارة المساجد ، وبهم تعمر المساجد ، ولهم ينبغي أن يعمروها . { وَأَقَامَ ٱلصَّلاَةَ وَآتَىٰ ٱلزَّكَاةَ } قد ذكرناه فيما تقدم . وقوله - عز وجل - : { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ } . قال بعضهم : هو صلة قوله : { أَتَخْشَوْنَهُمْ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ } [ التوبة : 13 ] أمر أن يخشوا الله ، ولا يخشوا غيره ، ثم ذكر - هاهنا - { مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلاَةَ وَآتَىٰ ٱلزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ } . وقال بعضهم : الخشية : العبادة ؛ كأنه قال : ولم يعبد إلا الله . { فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ } والعسى من الله واجب ، أي كانوا من المهتدين .