Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 28-29)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } اختلف فيه : قال بعضهم : النهي عن دخول المسجد الحرام نفسه . وعندنا أن النهي عن دخول المسجد الحرام نهي عن دخول مكة نفسها للحج وإقامة العبادات ؛ دليله وجوه : أحدها : قوله : { بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } ولو كان لدخول المسجد ، لكان ذلك العام أحق عن المنع في دخوله من غيره . والثاني : [ قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } . والثالث : قوله : " ألا لا يحجن بعد العام مشرك " وفي آخر الآية دلالة ذلك ؛ لأنه قال : ] { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } ، وخوف العيلة إنما يكون عن دخول مكة ؛ لأنه لو كان النهي عن دخول المسجد نفسه ، لكان لا خوف عليهم في ذلك ؛ لأنهم يحضرون ويدخلون مكة للتجارة ، فلا خوف عليهم في ذلك . أو أن يقال : إنه ذكر المسجد الحرام ؛ لما أنهم كانوا يقصدون البيت والحج به ، فيكون النهي عن دخول المسجد نهياً عن الحج نفسه ، وهو ما روي في الخبر أنه بعث عليّاً في الموسم بأربع ، وأمره أن ينادي في الناس ألا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فأجله إلى مدته ، فإذا مضت مدته [ فإن الله ] برئ من المشركين ورسوله ، ولا يطوفن بالبيت عريان ، ولا يحج بعد العام مشرك . فالنهي الذي ورد عن دخول المسجد إنما هو نهي عن الحج نفسه ، لأن البيت هو الذي يقصد إليه فيه . ألا ترى أنه قال : { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ … } الآية [ آل عمران : 97 ] ، وقال : { فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ … } الآية [ البقرة : 158 ] ، وقال : { وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } ، [ الحج : 29 ] ذكر البيت ، وهو المقصود بالحج في الإسلام والكفر جميعاً ؛ فعلى ذلك خرج النهي ، لكنه ذكر المسجد ؛ لما أن البيت فيه . فإذا كان ما ذكرنا : فإن شئت فاجعل آخر الآية تفسير أولها ، وهو قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } ، وهو ما ذكرنا أن النهي لو كان لدخول المسجد نفسه دون غيره من البقعة ، لكان ليس [ عليهم ] خوف العيلة ؛ لأنهم يدخلون مكة ، ويتجرون فيها ، ولا يدخلون المسجد . وإن شئت فاجعل أول الآية تفسير آخرها ، وهو قوله : { فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } وهو ما ذكرنا . فإذا كان ما ذكرنا ، دل أن المشرك لا يدخل المسجد الحرام ، وخبر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - [ أيضاً ] يدل على ذلك ، فأما من كان من أهل الذمة والعبيد منهم : فليسوا - والله أعلم - بداخلين في الآية إذا كانوا ممن لا يحج . فإن قيل : فقد روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه نادى : ألا لا يدخل الحرم مشرك ، ولم يذكر الحج . قيل له : روي عنه أنه قال : ناديت ألا يحج بعد العام مشرك ؛ فيكون قوله : لا يدخل الحرم مشرك ؛ على الحج ؛ على ما ذكرنا . وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ أنه رخص في دخول المسجد للعبيد والإماء ، وروي عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم ] قال : " لا يقرب المشركون المسجد الحرام بعد عامهم هذا ، إلا أن يكون عبداً أو أمة " يحتمل استثناء العبد والأمة ؛ لأن العبد لا يدخل للحج ولإقامة العبادة ، إنما يدخل لخدمة المولى إذا كان مسلماً . وفي بعض الأخبار : " أو أحداً من أهل الذمة " . وعن جابر بن عبد الله موقوفاً كذلك : " أو أحداً من أهل الذمة " . وفيه دلالة لقول أبي حنيفة - رحمه الله - : " أن لا بأس للكافر أن يدخل المسجد " ، وقال : أرأيت لو أراد أن يسمع كلام الله ليؤمن فيمنع عن ذلك ، ويؤمر المُستمعُ إتيان ذلك المشرك فيسمع كلامه ، فيكون الآمر إبلاغ المأمن لذلك المشرك الإمام دل أنه لا بأس لذلك . وقد ذكرنا أن ليس في ظاهر الآية دلالة النهي عن دخول المسجد ؛ بل المراد من ذكر المسجد ما ذكرنا من الحج وإقامة العبادة لغير الله . ألا ترى إلى قول الله : { وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلْعَاكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ } [ الحج : 25 ] وأن سبيل مكة كلها هذا السبيل ، وكذلك قوله : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } [ الحج : 33 ] والحرم كله منحر ؛ إلا أن المعنى في ذلك - والله أعلم - ما ذكرنا ألا يدخل المشركون حجاجاً ؛ ألا ترى أنا نعلم أن المشركين لم يزالوا مقيمين في الحرم بعد النداء ، ولم يخلو عنه . ومما يدل على ذلك - أيضاً - قول الله : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ فَمَا ٱسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ } [ التوبة : 7 ] فإن كان يعني به موضع العهد ، فإن ذلك العهد يوم الحديبية عند الشجرة ، فقد صار ذلك الموضع من المسجد الحرام ، وهو في المسافة بعيد منه ، [ وإن كان يعني به ] الذين عوهدوا ، فإنهم كانوا يوم نادى علي - رضي الله عنه - فذلك خارج من مكة ؛ لأن أهل مكة قد كانوا [ أسلموا ] قبل ذلك حين فتحها النبي ، فحاضري المسجد الحرام [ هم من كان نازلاً ] خارج مكة في الحرم وما حوله . وقوله : " ولا يقرب المسجد الحرام مشرك " . يخرج على وجوه : [ أحدها ] : لا تدعوهم يقربوا المسجد الحرام . والثاني : قولوا لهم : لا تقربوا المسجد الحرام . والثالث : على البشارة ؛ أي : إذا قلتم لهم ذلك فلا يقربوا بعد ذلك . وقوله : { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } أي : أفعال المشركين نجس ، والعبادات التي يأتون فيها نجس ، وهو ما ذكر حيث قال : { إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ } [ المائدة : 90 ] ، صير عمل الشيطان رجساً ؛ فعلى ذلك العبادات التي يقيمونها نجسة ، فالنهي عن الحج نهي عن إقامة العبادات لغير الله ؛ لأن تلك البقعة نزهت عن إقامة العبادة لغير الله . ثم اختلف في قوله : { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } قال بعضهم : هو نجس الأفعال . وقال بعضهم : هو نجس الأحوال . والأشبه أن يكون نجس الأفعال ؛ لأن قوله : { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } يخرج مخرج الذم ، ولا يحتمل أن يذموا ويشتموا بنجاسة الأحوال ؛ دل أنه إنما لحقهم ذلك الذم بما اكتسبوا من الأفعال الذميمة ، وهو كقوله : { إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ } [ المائدة : 90 ] رجس نجس ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله : { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } ، أي : نجسة الأفعال ؛ لأن ذلك من كسبهم ، فاستوجبوا المذمة لكسبهم ، وأما الأحوال فلا صنع لهم فيها . وقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } . قيل : خافوا من العيلة لما نُفي المشركون من مكة ؛ لأن معايش أهل مكة إنما كانت من الآفاق ، وبأهل الآفاق كانت سعتهم وتجارتهم ، لكن الله وعدهم السعة والغنى بقوله : { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ } ، قال بعضهم : دل قوله : { إِن شَآءَ } على أنه إنما وعدهم الإغناء في بعض الأوقات . وقال بعضهم : قوله : { إِن شَآءَ } كان من رسول الله ؛ لأنه أمر رسوله أن يعدهم الإغناء ، وهو مأمور أن يستثني في جميع ما يعده ؛ بقوله : { وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [ الكهف : 23 - 24 ] . ويحتمل أن يكون قوله : { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ } : بهؤلاء الذين نفوا عنه ؛ لأنه حبب إليهم التجارة والمكاسب وما ينالون الأرباح بها يحملهم ذلك على الإسلام فيسلمون ، فيدخلون فيها يحملهم حب التجارة على الإسلام ، فيكون لهم بهم غنى ، كما كان يحملهم حب التجارة والربح على الهجرة ، وقوله : { وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا } [ التوبة : 24 ] فعلى ذلك الأول . وقال بعضهم : قوله : { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } : الجزية التي ذكرها في الآية التي تتلو هذه . وقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ } . بما أضمروا من خوف العيلة أو { عَلِيمٌ } بما لهم وعليهم ، وممن يكون لهم الغنى . { حَكِيمٌ } في أمره وحكمه . وفي قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه معلوم أنهم أضمروا ذلك في أنفسهم ، ثم أخبرهم رسول الله بذلك ؛ دل أنهم علموا أنه إنما عرف ذلك بالله . وقوله - عز وجل - : { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } الآية . ذكر أهل الكتاب اليهود والنصارى ، أخبر أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ؛ [ و ] هم في الظاهر يقرون بوحدانية الله واليوم الآخر فما المعنى منه ؟ ! قيل : هم وإن آمنوا في الظاهر بالله واليوم الآخر ، فإنما يؤمنون بإله له ولد كما ذكره على أثره ، وهو قوله : { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ وَقَالَتْ ٱلنَّصَارَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ } [ التوبة : 30 ] فالإيمان بإله له ولد ليس بإيمان بالله ، فهم غير مؤمنين ، وكذلك آمنوا بالبعث واليوم الآخر ، ولكن لم يؤمنوا بالموعود في الآخرة ، فالإيمان باليوم الآخر بغير الموعود فيه ليس بإيمان به . أو أن يقال : إنهم وإن أقروا بما ذكرنا وآمنوا به ، فقد استحلوا أشياء حرمها الله عليهم ، وحرموا أشياء أحلها الله لهم ، ومن آمن بالكتب كلها والرسل ولم يؤمن بآية منها أو برسول منهم ، فهو غير مؤمن بالله واليوم الآخر ولا مصدق له . وقوله : { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ … } [ إلى آخر ] الآية . فإن قال لنا ملحد : إنكم تقاتلون الكفرة للكفر ، ثم إذا أعطوكم شيئاً من المال تركتم مقاتلتهم ، فلو كان قتالكم إياهم لذلك لا لطمع في الدنيا ، لكنتم لا تتركون مقاتلتهم لشيء يبذلونكم ، وكذلك لو كانت المقاتلة للكفر نفسه ، لكان النساء في ذلك والرجال سواء ؛ إذ هم في الكفر شرعاً سواء . وقالوا : لو كانت المقاتلة معهم لما ذكرنا ، وهو حكمة ، والآمر بذلك حكيم لكان الناس جميعاً في ذلك سواء ، ولا تتركون أحداً لشيء من ذلك ؛ بل يقاتلون أبداً ولا ترضون منهم غيره . فيقال لهم : إنا لن نقاتل الكفرة للكفر ، ولكنا ندعوهم إلى الإسلام ، فإن أجابوا إلى ذلك [ وإلا قتلناهم ] ليضطرهم القتل إلى الإسلام [ لهذا ما نقاتلهم لشيء سواه فإذا كان في آخذ الجزية ] معنى ما [ ندعوهم إلى الإسلام ] ، فإذا قبلوا ذلك تركناهم على ذلك ؛ لعلهم يرغبون في الإسلام إذا رأوا شرائعنا وأحكامنا ؛ لا أنا تركناهم رغبة فيما نأخذ منهم أو طمعاً في ذلك . وأصله المحنة ؛ إذ الدار دار المحنة ، ليست بدار الجزاء ، والمحنة تكون بمختلف الأشياء لا يجوز تلفها ؛ مرة يمتحنهم بالقتال ، ومرة بأخذ الأموال ، ومرة بالشدائد ؛ كقوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ … } الآية [ البقرة : 155 ] ، وقوله : { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ } [ الأنبياء : 35 ] وقوله : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ } [ الأعراف : 168 ] ونحو ذلك ، فإذا كان ذلك محنة لا جزاءً جاز ذلك ، وكان ذلك حكمة . وأما قولهم بأنا نقاتل الرجال ولا نقاتل النساء ونسترقهن ؛ لأنهن أتباع الرجال في جميع الأحوال وخدم لهم ، فإذا أسلموا أسلمن ؛ هذا معروف فيما بينهم ؛ إذ هن في أيدي الرجال يفعلون بهن ما شاءوا ، وأصله ما ذكرنا أن القتال محنة ، ليس هو جزاء الكفر ؛ إذ الدار دار محنة ، فله أن يمتحن بعضاً بالقتل ، وبعضاً بأخذ المال ، وبعضاً لا بذا ولا ذاك ، ولو كان جزاء لسوى بينهم ، [ و ] هو التخليد في النار أبداً . فإن قيل : ما الحكمة في أخذ الجزية من سائر الكفرة إذا كانوا أهل الكتاب أو المجوس ، وترك الأخذ من مشركي العرب ؟ . قيل : لوجوه : أحدها : أن ليس لمشركي العرب دين يدينون به يقاتلون عن ذلك الدين ، ولا لهم أصل يعتمدون عليه ، أو كتاب يكلون إليه ، إنما هم قوم يقاتلون عن قبائلهم ، ويتناصرون بهم ، ولغيرهم من الكفرة دين يدينون به ، وأصل يعتمدون عليه ، ويحاجون الناس بالحجاج التي لهم ؛ فإذا كان كذلك ، أمكن إقامة الحجج على هؤلاء ، وإلزام البراهين ، ولا كذلك مشركو العرب ؛ إذ لا دين لهم ينسبون إليه ، ولا مذهب يدعون غيرهم إليه بالحجاج ، وأمكن في غيرهم ؛ لذلك افترقا ، والله أعلم بذلك . والثاني : أنهم تمنوا أن يكون لهم رسول من جنسهم يتبعونه فيما يدعوهم إليه ، ونذير يجيبونه ، حتى أقسموا على ذلك ، وأكدوا القول في ذلك ؛ كقوله : { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ } الآية [ الأنعام : 109 ] ، ولم يكن من غيرهم من الكفرة ما كان منهم ؛ فإذا كان كذلك فهم يقاتلون أبداً حتى يوفوا ما وعدوا ؛ كقوله : { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } [ الفتح : 16 ] . والثالث : لفضل رسول الله ؛ إذ كان منهم ومن جنسهم ، فلا يترك أحد في تلك البقعة على غير دينه . وأمكن أن يكون وجه آخر : وهو أن مشركي العرب في حد القليل أمكن المقاتلة معهم والقيام لهم ؛ فلا يرضى منهم إلا الإسلام ، وأما غيرهم من الكفرة في بقاع مختلفة : فهم كثير ، إذا اجتمعوا لم يكن في وسع أهل الإسلام القيام لهم والقتال معهم ، فيلحق المسلمين في ذلك ضرر بين ؛ لذلك كان ما ذكر . وقوله : { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ … } الآية . قد ذكرنا أنهم وإن كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر عند أنفسهم أنهم - في الحقيقة - غير مؤمنين ؛ لأن شرط إيمانهم الإيمان بالرسل جميعاً والكتب أجمع ، فهم قد تركوا الإيمان ببعض الرسل ، وببعض الكتب ، ومن كفر برسول من الرسل ، أو بكتاب من الكتب ، أو بحرف منها - كان كافراً بالله . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } . يحتمل أنهم لا يحرمون تحريف الكتاب وكتمان نعت رسول الله ، والله حرم ذلك عليهم . أو لا يحرمون عبادة الأوثان ، والله ورسوله يحرم ذلك . أو لا يحرمون ما حرم الله ورسوله من الخمر والخنزير وغيره ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ } . وهو الإسلام ؛ لأنه دين توجبه العقول كلها ، وتشهد به خلقة الخلائق كلها . أو أن يقول : لا يدينون دين الذي له الحق ، إنما يدينون بدين الذي لا حق له ، وهو دين الشيطان ، وهو ما يدعوهم إلى عبادة الأصنام ، فيجيبونه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . يحتمل قوله : { يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ } ، أي : يقبلوها ، لا على الإعطاء نفسه ، وهو ما ذكرنا في قوله : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ } [ التوبة : 5 ] هو على القبول لها ، لا على الفعل نفسه . ويحتمل : نفس الإعطاء ، وهو - والله أعلم - لما جعلت الجزية لحقن الدماء ، فتقدم ؛ لتحقن بها الدماء . وقوله : { عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } قال بعضهم : { عَن يَدٍ } ، أي : لا يؤخر قبضها عن وقت قبولها ؛ بل تؤخذ يداً بيد ، [ وقال بعضهم : عن يد ] أي : عن قهر وغلبة . وقيل : { عَن يَدٍ } ، أي : عن طوع وطيب . وقيل : عن جماعتهم . لكنا لا ندري ما يعنون بالجماعة . وقوله : { صَاغِرُونَ } قيل : ذليلون ، وهو من الذل ؛ يقال : صغر الرجل يصغر صغاراً ، فهو صاغر ، أي : ذل ؛ فهو ذليل . وقيل : { صَاغِرُونَ } [ أي ] : مذمومون . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - : يمشون بها متبلين . وأصله : الذلة ، وهو الخضوع - والله أعلم - الذلة التي ذكر الله في قوله : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ } [ آل عمران : 112 ] ، فإذا قبلوا ذلك ، فقد أذعنوا بالذل والصغار . وقوله : { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ … } الآية ، أما اليهود والنصارى : فلا خلاف بين أهل العلم في أن من بذل منهم الجزية ، أخذت منه وأقر على دينه . وأمّا المجوس : فإنه تؤخذ منهم الجزية ؛ لما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : ما أدري ما أصنع بالمجوس فإنهم ليسوا بمسلمين ، ولا من أهل الكتاب قال عبد الرحمن بن عوف : أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " . وفي بعض الروايات : " أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر " . وعن علي أن أبا بكر وعمر أخذا الجزية من المجوس . وقال علي ابن أبي طالب : أنا أعلم الناس بهم ، كانوا أهل كتاب يقرءونه ، وأهل علم يدرسونه ، فنزع ذلك من صدورهم . وعن أبي رزين عن أبي موسى قال : لولا أني رأيت أصحابي أخذوا الجزية من المجوس ما أخذتها . وعن أبي عبيدة بن الجراح قال : كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر : " من استقبل قبلتنا ، وصلى صلاتنا ، وأكل ذبيحتنا - فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله ، ومن أحبّ ذلك من المجوس فهو آمن ، ومن أبى فعليه الجزية " . [ وفي بعض الروايات : " استقبل قبلتنا ، وصلى صلاتنا ، وأكل ذبيحتنا ، له ما لنا ، وعليه ما علينا ، ومن ترك ذلك فعليه الجزية . " وعلى ذلك مضت الأئمة ، ولم ينكر أحد من السلف ، حتى قال قوم في المجوس : إنما أخذت منهم الجزية ؛ لأنهم أهل كتاب ، فأحلوا ذبائحهم ونساءهم ، وذهبوا إلى ما روي عن علي . وقال آخرون : ليسوا من أهل كتاب ، ولكن الجزية تؤخذ منهم ؛ اتباعاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ، ولا آكلي ذبائحهم " ، وما روي عن الصحابة وأئمة الهدى . ثم المسألة في تقدير الجزية : روي في بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بعث معاذاً إلى اليمن ، فقال له : " خذ من كل حالم ديناراً أو عدله معافريا " . وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه بعث عثمان بن حنيف إلى السواد ، وأمره أن يضع على أهل السواد الخراج ثمانية وأربعين درهماً ، وأبعة وعشرين درهماً ، واثني عشر درهماً . وفي بعض الروايات أنه ضرب على أهل الذهب أربعة دنانير ، وعلى أهل الورق أربعين درهماً [ وجعل ] مع ذلك إرزافاً للمسلمين ، وضيافة ثلاثة أيام . وأصحابنا يجعلونهم ثلاث طبقات : أغنياء ، وأوساطاً ، وفقراء ، فيأخذون من الغني الموسر ثمانية وأربعين درهماً ، ومن الوسط أربعة وعشرين درهماً ، و من الفقير المحترف اثني عشر درهماً . وفي بعض الأخبار : أربعين درهماً وأربعة دنانير ، وضيافة ثلاثة أيام وعشرين درهماً وديناراً ، وهو ما ذكرنا ثمانية وأربعين بغير الضيافة وغير المؤنة . وما روي من أربعين درهماً أو أربعة دنانير مع الضيافة والرزق الذي ذكر في الخبر ، وهذا من عمر بحضرة المهاجرين والأنصار ، فلم يأت عن أحد منهم النكير عليه ولا الردّ ، فهو كالاتفاق منهم على ذلك . ثم لا يحتمل أن يكون عمر قدر ذلك التقدير رأياً منه ؛ لأن المقدرات والمحدودات سبيل معرفتها التوقيف والسمع ، لا العقل ؛ فهو كالمسموع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وما روي من حديث معاذ حين أمره النبي - عليه السلام - أن يأخذ من أهل اليمن من كل حالم ديناراً ، فذلك يحتمل أن يكون أمر بذلك ؛ لما كانوا أهل ضعف وفقر ، على ما روي عن عمر في الضعفاء من أهل مصر والشام ، وليس هو الحدّ الذي لا يلزم أكثر من ذلك ؛ لما ذكرنا أن عمر ألزم المياسير أكثر من دينار ، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة ؛ فدل فعلهم على ما وصفناه . ثم المسألة في تمييز أصحاب الطبقات بين الموسر الغني ، وبين الوسط والفقير . قال بعضهم : الفقير : من يحترف وليس له مال تجب في مثله الزكاة على المسلمين ، وهم الفقراء المحترفون ، فمن كانت له أقل من مائتي درهم فهو من أهل هذه الطبقة ، والطبقة [ الثانية ] : أن يبلغ مال الرجل مائتي درهم . فقال بعضهم : إذا بلغ ماله أربعة آلاف درهم وزاد عليها ، صار من أهل الطبقة الثالثة ، واحتجوا بقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وابن عمر ؛ حيث قالا : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، وما فوق ذلك كنز . وقد يجوز أن يجعل الطبقة الثانية من ملك مائتي درهم إلى عشرة آلاف درهم ، وما زاد على ذلك يجعل من الطبقة الثالثة ؛ لحديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برواية أبي هريرة قال : " من ترك عشرة آلاف درهم ، جعلت صفائح يعذب بها يوم القيامة " . ثم في قوله : { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } دلالة على أن الجزية إنما تؤخذ ممن يجب أن يقاتل إن لم يبذلها ، والنساء والصبيان [ لا يقاتلون ] ولا يقتلن إن ظهر بهم ، فلا يجب أن توضع عليهم الجزية بدليل الكتاب ؛ إذ كان الله إنما أمر أن تؤخذ الجزية ممن يقاتل ، وكذلك فعل عمر والأئمة بعده . روي أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى أمراء الجيوش : لا تقاتلوا إلا من قاتلكم ، ولا تقتلوا الصبيان والنساء ، ولا تقتلوا إلا من جرت عليه المواسي . وكتب إلى عماله : أن يضربوا الجزية ، ولا يضربوها على النساء والصبيان . وفي بعض الروايات أنه كتب إلى أمراء الأجناد : ألا تأخذوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسي ، قال : والجزية أربعون درهماً أو أربعة دنانير . [ و ] في خبر معاذ دلالة لذلك ؛ حيث قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، وأمرني أن آخذ من كل حالم ديناراً أو عدله معافريّاً . بين معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ ذلك من الرجال دون النساء والصبيان . فإن قيل : روي عن معاذ : قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ من كل حالم وحالمة ديناراً . وفي بعض الروايات عنه أنه قال : أن آخذ من كل حالم ذكراً أو أنثى ديناراً ؛ فإن كان هذا مثبتاً محفوظاً ، فهو دليل لما يؤخذ من نصارى بني تغلب ، ويكون حكم نساء العرب من أهل الكتاب فيما يؤخذ منهم خلاف نساء العجم منهم . أو أن يقال : إنه غير محفوظ ؛ لما عمل الأمة بخلافه ؛ لأن الوفاق قد جرى على أن لا جزية على النساء ، ولو كان محفوظاً لظهر العمل به . أو أن يكون قوله : " خذ من كل حالم [ وحالمة ] ديناراً " ، أي : خذ منهما ديناراً ولا تأخذ من كل واحد ديناراً ؛ كقوله : " لكل سهو سجدتان لا يلزمه أكثر من ذلك " . ثم نذكر مسألة ليس في الآية ذكرها ، وهي أن الجزية إذا ضربت ، فدخلت سنة أخرى قبل أن يؤديها - أخذت منه للسنة الثانية ، ولم تؤخذ للسنة الأولى الماضية ، ليس كسائر الديون ؛ [ لأن مجوسيّاً لو أسلم بعد مضي السنة لم يطالب بجزية العام الماضي ، فلو كانت كسائر الديون لطولب بها المسلم كما يطالب بمال يكون عليه إذا أسلم أو بقي على مجوسيته ، فلما لم يطالب ، دل أنه ليست كسائر الديون ] . فإن قيل : أليس الخراج يطالب به من أخره من سنة إلى سنة ؟ ! قيل : ليست الجزية مثل الخراج ؛ [ لأن الخراج ] يجب على المسلم في أرضه ، فهو كسائر الديون . فإن قيل : إن المجوسي إذا أسلم بعد مضي السنة ، طولب بالجزية للسنة الماضية . قيل : روي عن عمر أنه رفع الجزية بالإسلام ، فقال : والله ، إن في الإسلام لمعاذاً إن فعل ترفع عنه الجزية . وروي في بعض الأخبار عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ليس على مسلم جزية " ، فمن طالبه بالجزية بعد الإسلام ، فقد خالف الخبر . فإن قيل : إنما يزول عن المسلم ما كان عليه من الجزية في حال كفره ؛ لأنه صار إلى حال لا يجوز أن توضع عليه ابتداء . قيل : إن الذمي إذا اجتمع عليه الجزية سنتين ، فصار إلى حال لا يجوز أن يلزم في الابتداء في مثلها أكثر من اثني عشر درهماً لفقره - لم يجز أن يلزم أكثر منها ؛ لأنه جعل حكم مستدبر الجزية التي وجبت ، فأسلم صاحبها حكم الابتداء في توظيف الجزية عليه ، فوجب أن يجعل حكم مستدبر من أتت عليه سنتان حكم ابتدائه ، وأصله أن الجزية إنما جعلت لحقن الدم ، فإذا مضت سنة ، صار دمه محقوناً في السنة الماضية ؛ لذلك لم تؤخذ . وقوله : { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ … } إلى آخره . تضمنت هذه الآية أحكاماً : منها الأمر بقتال من لم يؤمن بالله واليوم الآخر ، وهم يقرون بالأمرين ، لكنه يخرج على وجوه ثلاثة : أحدها : أنهم مشبهة من تشبيههم الله بخلقه احتمل قولهم القول له بالولد ؛ إذ الذين شهدوا من الخلائق على ذلك وجدوا بولد بعض من بعض ، وإذا كان كذلك فهو غير مؤمن - في الحقيقة - بالله الذي هو الحق حتى يؤمنوا به ، وأنه به تكون الآخرة دون الذي ادعوه . والثاني : أن الذي جبل عليه الخلق هو تعظيم رسل الملوك وأجلتهم حتى يوجد من بر الرسل بين ملوك قد ظهرت بينهم العداوة ، فلما كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع البراهين التي قد أعجزت الخلائق ، وشهادة كتبهم به ، وتظاهر من عرفوا أنهم يكذبون بكتبهم وبرسلهم على من صدق بذلك - ثبت أنهم في الحقيقة مكذبون جميع الرسل والكتب وإن أظهروا الوفاق ، وأن ذلك لا يكون إلا لتكذيب منهم بالله ؛ فعلى ذلك إيمانهم بالله يكون بإيمانهم بالرسل ، وعلى ذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد عبد قيس أنه قال : " " آمر بأربع : آمركم بالإيمان بالله " ، ثم قال : " أتدرون ما الإيمان بالله ؟ أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله " " ؛ فلذلك لم يكن إيمانهم بالله إيماناً حتى يؤمنوا برسول الله ، وعلى هذا يحاربون . والثالث : أن يكون نفى عنهم الإيمان بنفي منفعة الإيمان عنهم ؛ إذ أقل المنفعة به الإيمان برسله ، والقبول عنهم بالتعظيم ، فإذا ظهرت منهم هذه المنفعة تركوا القتال . ثم الترك على قبول الجزية جائز ، وإن كان الأمر قد تقدم بالقتل من غير أن يكون دليل ، إما لأجل ذلك المال نقاتل ، كما كتب على كل نفس الموت . ثم قد يتركون على ما هم عليه من اختلاف الأديان وتفرق الأهواء ، وإن كان لا يدل ذلك على الإقرار بما هم عليه ، والرضا بما اختاروا ، فمثله في الأول لا يدل على الرضا بكفرهم ، ولا على القتال لأخذ تلك الأموال منهم . ثم الأصل أن القتال لم يجعل ليكون [ القتل ] عقوبة للكفر ؛ إذ نوع القتل ومعناه قد يوجد في الأخيار والأشرار جميعاً ، وهو الموت ثبت أنه لم يجعل لذلك ، ولكن لوجهين : أن يضطرهم إلى الإجابة على ما فيه نجاتهم وبه نيل كرامة الأبد ، وكان ذلك بعد أن ألزمناهم كل أنواع الحجج ، فلم يقنعهم ، قاتلناهم بما كان الذي يمنعهم عن النظر في الحجج حب اللذات وألذها الحياة ، قاتلنا حتى ييأسوا عن تلك اللذة المانعة عن النظر في الحجج ، والصادة عن الإجابة فتزول عنهم . وفي قبول الجزية - قيل - بعض الذل والصغار الذي تنفر عنه الطباع ، ويدعو إلى ما فيه الزوال ، فينظرون في الحجج ، ويقبلون ما دعوا إليه ؛ فتكون به نجاتهم ، وزيادة لنا في الكرامة . والثاني : [ أن ] المحن كلها منقسمة على الحسنات والسيئات ، والخيرات والشرور ؛ ولذلك جعل الموت والحياة ، وعلى ذلك جميع أمور الدنيا هو التقلب على مختلف الأحوال ، فمثله الدعاء إلى الإسلام يكون مرة بمحاجة إليه ، ومرة باللسان ، ومرة بالترك ، لا أن جعل شيء من ذلك لشيء ، ولكن بما عليه أمر المحن ؛ ليتذكر به وجود [ الموعود بالآثار له في أحوال المحن ، فعلى هذا أمر القتال في قوم ، والعفو عن قوم ، والدعاء إلى الإسلام في قوم ، وإلى قبول ] الذل في قوم على ما في علم الله من المصلحة ، وعلى ما عليه حق الحكمة . ثم الفرق بين مشركي العرب وغيرهم يخرج على وجوه : أحدها : أنهم قد كانوا أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الإمم ، فجاءهم ، فكذبوه ، ثم أقسموا لئن جاءهم نذير ليؤمنن به ، فجاءتهم آيات فلم يؤمنوا ، فاستوجبوا القتال إلى أن يفوا بالعهد الذي سبق ، والقسم الذي جهدوا به ، وليس غيرهم هكذا . أو على قوله : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ … } الآية [ الأنعام : 110 ] ، فبين الإياس عن إيمانهم إلا أن يشاء الله ، فهو يخرج على وجهين : أحدهما : الإياس عن إيمانهم . وقبول الجزية ليخالطوا أهل شريعة الله ، فيسمعوا منهم الحجج ، ويعاينوا الأفعال المحمودة في العقول ، والأخلاق الكريمة التي جاء بها الرسول فيؤمنوا ، وهؤلاء قد أيأس الله من إيمانهم ، وأخبرهم أنهم ييأسون أبداً ؛ فلذلك لم يعط لهم عهد ، وعلى ذلك ظهر نقضهم العقود مرة بعد مرة ، والله أعلم . والثاني : أنه استثنى فيهم ألا يؤمنوا بالآيات إلا أن يشاء الله ، فلعل الله شاء أن يكون إيمانهم بالقتال خاصة ، ففرض فيهم ذلك إلى أن يؤمنوا . ووجه آخر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بعث فيهم ومنهم ؛ فأوجبت لهم الفضيلة به ألا يقبل منهم غير الإيمان ، كما فضلت البقعة التي فيها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومنها ألا يترك فيها غير المؤمن تفضيلا . ووجه آخر : أنهم قوم ليس لهم أسٌّ ، ولا أئمة في الدين إليهم يرجعون في التأسيس ، ومعلوم أن لا قوام في العقول لأمر الدين إلا بالأئمة ؛ كالسياسات كلها والأمور فيها القوام من الملك وغيره ؛ بل إنما كانوا جروا على عادتهم ، وقاتلوا عن القبائل فلا يرجعون - في الحقيقة - إلا إلى عادة خارجة عن التدبير ، وغيرهم يرجعون إلى مذاهب أسست مما أسس أمر الديانات ، فقد تعلقوا بضرب من ذلك ، فتركوا إذا خضعوا وأذعنوا لهم بحق التبع ، فيتركون [ رجاء ] أن يتأملوا ؛ إذ لكل مذهب نظر ، وليس لأولئك سوى العادة وتقليد الآباء ، ومن ذلك وصفه لا ينظر فيمهل للنظر ، والله أعلم . وأيضاً : إن لسائر المذاهب أصول يكثر أهلها ، وفي الإقامة على القتال إلى الفناء ينضم بعض إلى بعض فيتناصرون ، فيخاف على المسلمين بما به رجاء التكثر الفناء ، والعرب يقل عددهم حتى لم يكونوا يقدرون على المناوأة إلا بمعونة أهل الكتاب وغيرهم ، فأمكن أن يضطروا به إلى القتل مع ما ليست لهم مذاهب معلومة ؛ إذ لا يذكر في شيء من الكتب لهم مذاهب ، وقد ذكر لجميع الفرق ، فإنما أمرهم على العادة ، وقد تترك العادات بما يعترض فيها ما يمنع الاستمرار عليها من القتال والحرب فيتركونها ، وأهل المذهب عندهم أنهم لزموا بالحجج ، ومثل ذلك لا يترك إلا بالحجج ، وذلك يكون بقبول الذمة والعهد . وأيضاً : إنه يمكن إلزام كل ذي مذهب بما يوجد في مذهبه ما يثبت القول بالإسلام وبالعهد رجاء الوصول إليه ، وليس لمشركي العرب ذلك ؛ لما لم يُبْنَ مذهبهم على الحجج أو الشبه ، إنما هو تقليد وعادة ، والله أعلم .