Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 38-41)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ألا ترى أنه قال في الآية التي تتلو هذه : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ } ، قال بعضهم : الآية في المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك ؛ كقوله : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ … } [ التوبة : 101 ] الآية ، فيفهم ذكر ذلك الوعيد . وقال بعضهم : الآية في المؤمنين ؛ أمروا أن ينفروا في سبيل الله . { ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ } . قيل : استثقلتم النفر في سبيل الله وأقمتم . ويحتمل التثاقل : هو أن يروا من أنفسهم الثقل من غير أن أقاموا ؛ كما يقال : يتصامم ويتعامى ، من غير أن كان به الصمم والعمى ، ولكن لما يرى من نفسه ذلك . وقال بعض أهل الأدب : قوله : { ٱثَّاقَلْتُمْ } . أي : تثاقلتم وركنتم إلى المقام ، وذلك في القرآن كثير ؛ كقوله : { حَتَّىٰ إِذَا ٱدَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً } [ الأعراف : 38 ] أي : تداركوا . وقوله : { أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ } . أي : ما متعكم في الدنيا قليل بما وعد أن يمتعكم في الآخرة . أو أن يقال : متاع الحياة الدنيا من أولها إلى آخر ما تنتهي قليل من متاع الآخرة وكراماتها ؛ لأن كرامات الدنيا على شرف الزوال ، وكرامات الآخرة على الدوام أبداً . أو أن يقول : متاع الحياة الدنيا قليل من متاع الآخرة ؛ لأن متاع الدنيا ومنافعها تشوبه الآفات والمضرات ، ومتاع الآخرة لا تشوبه الآفات والمضرات . وقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ … } الآية . عاتب المؤمنين بالتثاقل بالخروج إلى الأرض ، ونهاهم عن الركون إلى الدنيا . وقوله : { إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ } [ التوبة : 37 ] . أي : لما أحدث أولئك الملوك من تحليل ما حرم الله ، وتحريم ما أحل الله زيادة في كفر أولئك أحدثوا من وقت إحداثهم . وقوله - عز وجل - : { يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ التوبة : 37 ] . يحتمل وجهين : يحتمل : { يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } ، أي : يهلك به الذين كفروا ، أي : الذين أحدثوا . ويحتمل : { يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } ، أي : ما أحدثوا أولئك الملوك إنما أحدثوا ؛ ليضلوا به الأتباع { يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً } على ما ذكر في القصة أنهم كانوا يستحلون المحرم عاماً فيصيبون فيه الدماء والأموال ، ويحرمونه عاماً فلا يستحلون فيه الدماء والأموال . وقوله - عز وجل - : { لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ } [ التوبة : 37 ] قيل : ليوافقوا عدد ما حرم الله ؛ كان عندهم أن التحريم إنما كان لعدد الأشهر [ لا ] للأشهر ؛ لما في الأشهر ، فحفظوا عدد الأشهر ، ولم يحفظوا الوقت ، وذلك تأويل قوله : { لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوۤءُ أَعْمَالِهِمْ } [ التوبة : 37 ] ، أي : زين تأخير المحلل وتقديم المحرم { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } [ التوبة : 37 ] . قيل : لا يهديهم وقت اختيارهم الكفر ، ولا يهديهم في الآخرة طريق الجنة ؛ لكفرهم في الدنيا ، وقد ذكرنا تأويله في غير موضع . قال أبو عوسجة : النسيء : التأخير ؛ يقال : نسأت الشهر ، أي : أخرته ، ويقال : أنسأ الله في أجلك ، أي : أخره الله . وقوله : { لِّيُوَاطِئُواْ } . المواطأة : أن يدخلوا شهراً مكان شهر ، وهو التتابع ؛ يقال : تواطأ القوم على حديث كذا وكذا ، أي : تتابعوا ، وواطأت فلاناً ، أي : تابعته . وقال القتبي : النسيء : التأخير ، وكانوا يؤخرون تحرم المحرم منها سنة ، ويحرمون غيره مكانه ؛ لحاجتهم إلى القتال فيه ، ثم يردونه إلى التحريم في سنة أخرى ؛ كأنهم ينسئون ذلك . { لِّيُوَاطِئُواْ } أي : ليوافقوا { عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ } ، يقول : إذا حرموا من الشهور عدد الشهور المحرمة ، لم يبالوا أن يحلوا الحرام ويحرموا الحلال . وقوله - عز وجل - : { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } . أي : إن لم تنفروا يعذبكم عذاباً [ أليماً ] ، فإن كانت الآية في المنافقين فهو ظاهر ، وإن كانت في المؤمنين فيحتمل قوله : { يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } : يحل بهم ، ولم يبين ما ذلك العذاب . وقال بعضهم : شدد الله الوعيد في تركهم النفر والخروج في سبيل الله ، وعلى ما شدد ببدر في التولية للدبر بقوله : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ } الآية [ الأنفال : 16 ] ، غير أنه شدد يوم بدر لما لم يكن ملجأ ، وكان نفارهم نفار نفاق ، وهاهنا شدد لغير ذلك ؛ لوجوه : أحدها : لما في تخلف المؤمنين عنه موضع العذر للمنافقين بالتخلف عنه أنهم [ إن تخلفوا ] للعذر ، فنحن نتخلف - أيضاً - للعذر ، ولنا في ذلك عذر . والثاني : يكون للكفار موضع الاحتجاج عليهم ، يقولون : إنهم يرغبوننا في الآخرة ويحثوننا في ذلك ، ثم إنهم ينفرون عن ذلك ويرغبون عنه . والثالث : يكون في تخلفهم الشوكة على المؤمنين ؛ إذ يقلون إذا تخلفوا . وقوله - عز وجل - : { وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } . [ قيل فيه بوجوه : قيل : يستبدل الملائكة فينصروا رسول الله على ما استبدل يوم بدر ويوم حنين ويوم الأحزاب . وقيل : يستبدل قوماً غيركم على ما استبدلكم يا أهل مكة فينصرونه . وقال بعض من أهل التأويل : يستبدل قوماً غيركم ] أي : ينشئ قوماً غيركم . لكن تأويل الأول أشبه . ألا ترى أنه قال في آخره : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ } . وقوله : { وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً } . هو ما ذكرنا ، أي : لا تضروا رسول الله بالتخلف عنه . وقال بعضهم : لا تضروا الله [ شيئاً ] . والأول أشبه ؛ لما ذكرنا . وقوله - عز وجل - : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ } يقول : إن لم تنصروا رسول الله فالله ينصره ، على ما نصره في الوقت الذي كان في الغار ، لم يكن معه أحد من البشر إلا واحد ، فإن لم تنصروه فالله كافيه في النصر ، على ما كفاه ونصره في الحال التي لم يكن معه من البشر [ أحد ] إلا واحد ، فاليوم لا ينصره ومعه من الأنصار والأعوان ما لا يحصى ؟ ! وكان ما استنفرهم رسول الله وأمرهم بالخروج إلى العدو ، لم يكن يستنفرهم لمكان نفسه ؛ إذ يعلم أن الله كافيه في نصره ، ولكن إنما كان يستنفرهم ويأمرهم بالخروج لمكان أنفسهم ؛ ليكتسبوا [ بذلك ] قرباً وثواباً عند الله وزلفى ؛ ألا ترى أنه قال : { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } ، وقال : { وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً } ، أي : إن لم تنفروا ولم تنصروا رسول الله فلا تضروه شيئاً ؛ إذ الله كافيه في نصره . وإنما عاتبهم بترك النفر والخروج ؛ لئلا يركنوا إلى الدنيا ، ولا يرضوا بالحياة الدنيا من الآخرة على ما ركن أولئك الكفرة ؛ لأن ركونهم إلى الدنيا وحبهم إياها هو الذي منعهم عن اتباع محمد ، وهو الذي حملهم على الكفر بالله ، والتكذيب لرسوله ، وترك الإجابة له فيما يدعوهم إليه فيقول - والله أعلم - للمؤمنين : ولا تركنوا إلى الدنيا ، ولا ترضوا بها من الآخرة ؛ ليمنعكم ذلك عن النفر والخروج إلى ما يأمركم رسول الله ، على ما منع أولئك الكفرة ؛ على ما ذكرنا . وأصله : أنه إنما استنصرهم لا لحاجة له إلى نصرهم ؛ إذ هو قادر أن ينصر رسوله بما شاء ، لكن طلب منهم النصر له ؛ ليكتسبوا بذلك ثواباً لأنفسهم ، وذكراً في الأجل ، وكذلك ما طلب منهم الشكر له على نعمه ، لا لحاجة له في ذلك ، ولكن ليستديموا النعمة ، ويصلوا إلى الباقية الدائمة . وقوله - عز وجل - : { إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } . أي : اضطروه إلى الخروج حين هموا بقتله ، حتى خرج من بين أظهرهم . وقوله - عز وجل - : { ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ } . [ ثاني اثنين ] أي : لم يكن معه من البشر إلا واحد ؛ ليعلموا أن النصر لم يكن بأحد من البشر ، إنما كان بالله - تعالى - إذ بالواحد لا تكون النصرة والحفظ من ألوف ، يذكر فضل أبي بكر ، وكان هو ثانيه في كل أمره . وقوله - عز وجل - : { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا } لم يكن حزن أبي بكر [ خوفاً ] على نفسه ، ولكن إشفاقاً على رسول الله أن يصاب ، وكذلك روي في الخبر أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، إنك إن تُصبْ يذهب دين الله ، ولن يعبد الله على الوجه الأرض . وفي بعض الأخبار " أن أبا بكر كان يبكي إشفاقاً على رسول الله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك ؟ " ، فقال له : " يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين ثالثهما الله " " . وقيل : إنهما لما أتيا باب الغار سبق أبو بكر فدخل الغار ، وكان الغار معروفاً بالهوام ، فألقمها أبو بكر قدميه ، فأطال ذلك ، فقال : إن كان فيه شيء بدا لي ، أو كلام نحو هذا ، - والله أعلم - . [ وقوله ] { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا } [ التوبة : 40 ] : ليس بنهي عن الحزن و [ الخوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ] ، ولكن على تخفيف الأمر عليه وتيسير الحال التي هو عليها . وقوله - عز وجل - : { فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } . قيل : أنزل سكينته على أبي بكر حين قال له رسول الله : " ما ظنك باثنين ثالثهما الله ؟ ! " ، حتى سكن قلب أبي بكر من الحزن والخوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال بعضهم : أنزل السكينة على رسول الله ؛ فهو يخرج على وجهين : أحدهما : أنه أنزل السكينة عليه حتى رأى هو جنوداً لم يروها هم ؛ حيث قال : { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } . والثاني : أنزل سكينته بالحجج والبراهين ، لكنه إن كان ما ذكر ، فهو قد أنزل السكينة عليه في البدء ؛ لأنه كان رسول الله لا يخاف سوى الله ، ويعلم أنه ينصره ، وكذلك روي عن ابن عباس قال : فأنزل [ الله ] سكينته على أبي بكر ؛ لأن النبي لم تزل السكينة معه ؛ وهو أشبه . وقوله : { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } . يحتمل : في ذلك الوقت . ويحتمل : في الغزوات التي نصره بالملائكة يوم بدر وغيره ؛ يخبر أنه قادر أن ينصره لا بالبشر ؛ ليعلموا أنه إنما يأمرهم بالنصر ، لا لنصر رسول الله ، ولكن ليكتسبوا بذلك ما ذكرنا من الثواب . وقوله - عز وجل - : { وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا } . [ يحتمل { كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } : وهو ما مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهموا بقتله جعل مكرهم ومكيدتهم واجتماعهم على ذلك هي السفلى وكلمة الله هي العليا ] . أي : مكر الله [ بهم ] ونصرة رسوله هي العليا ؛ كقوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ … } الآية [ الأنفال : 30 ] . ويحتمل قوله : { كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } : دينهم الذي يدينون به ، ومذهبهم الذي ينتحلونه . { ٱلسُّفْلَىٰ } ، أي : جعل ذلك السفلى بالحجج ، وجعل دين محمد [ هو ] العليا بالحجج والبراهين على ذلك ما كان . ويحتمل قوله : { كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ } ، أي : جعل أهل الكلمة الذين كفروا هم السفلى ، وأهل دين الله هم الأعلون ؛ كقوله : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } [ آل عمران : 139 ] . وقوله - عز وجل - : { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ } لا يعجزه شيء { حَكِيمٌ } : في أمره . وقوله - عز وجل - : { ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً } . اختلف فيه ؛ قيل : شباباً وشيوخاً . وقيل : مرضى وأصحاء . وقيل : مشاغيل وغير مشاغيل . وقيل : فقراء وأغنياء . وقيل : نشاطاً وغير نشاط . وأصله : انفروا مستخفين ومستثقلين ، أي : انفروا ، خف عليكم الخروج أو ثقل ، وما ذكر أهل التأويل من الشيوخة والشغل والفقر والمرض ؛ لأن ذلك بالذي يثقل الخروج والنفر . وأصله ما ذكرنا أن انفروا ، خف عليكم [ ذلك ] أو ثقل . وقوله : { ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً } . انفروا ، خف على النفس أو ثقل ، أو خف على العقل أو ثقل . وقوله - عز وجل - : { ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ } . في الدنيا والآخرة ، أي : اعلموا أن ذلك خير لكم من المقام وترك النفر ، { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } .