Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 15, Ayat: 26-41)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثمَّ قال سبحانه امتناناً لكم ، وتنبيهاً عن دناءة منشأكم ، ثمَّ على شرف مكانتكم وعلو شأنكم : أيها المكلفون من الثقلين ، القابلون للإيمان والمعارف { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ } أي : أظهرنا جنسه ، وقدرنا جسمه { مِن صَلْصَالٍ } أي : طين يابسٍ مصوتٍ من غاية يبسه وبقائه على حر الشمس ، متخذٍ { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 26 ] أي : من طين أسود منتن كريه الرائحة ، يستكره ريحه جميع الحيوانات . { وَٱلْجَآنَّ } أي : جنسه أيضاً { خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ } أي : من قبل إيجاد الإنسان من مادة أدنى أيضاً ؛ إذ هو متخذ { مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ } [ الحجر : 27 ] أي : شديد الحر متناه فيه . انظروا أيها المعتبرون إلى نشأتكم ومادتكم { وَ } اذكروا تشريف ربكم إياكم وقت { إِذْ قَالَ رَبُّكَ } يا أكمل الرسل ، خصه سبحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخطاب ؛ للياقته وكمال استحقاقه أن يكون مخطاباً معه ، كأنه لجمعية مرتبته عموم مراتب بني نوعه ، عبارةُ عن جميعهم { لِلْمَلآئِكَةِ } على سبيل الإخبار والتعليم : { إِنِّي } لمطالعة جمالي وجلالي ، وجميع أوصاف كمالي على التفصيل { خَالِقٌ } ومقدرُ { بَشَراً } أي : تمثالاً متخذاً { مِّن صَلْصَالٍ } متخذة { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 28 ] بعيدٍ بمراحل عن مقاربتي ؛ إذ هو أخس الأشياء وأدونها . { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } أي : عدلته وكملت هيكله وشكله { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } ورشئت عليه من رشحات نور وجودي ليكون حياً بحياتي ، ومرآة لي أطالع فيها جميع أسمائي وأوصافي { فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ الحجر : 29 ] فعليكم أن تضعوا جباهكم على تراب المذلة عنده تعظيماً له وتكريماً . ولما سمعوا الأمر الوجوبي القطعي { فَسَجَدَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } بلا طلب مرجح ودليل { كُلُّهُمْ } بلا خروج واحد منهم { أَجْمَعُونَ } [ الحجر : 30 ] مجتمعون معاً بلا تقدم وتأخر ، وتردد وتسويف . { إِلاَّ إِبْلِيسَ } الذي هو منهم تبعاً لأصالته { أَبَىٰ } عن السجود ، وامتنع { أَن يَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ } [ الحجر : 31 ] . ثمَّ لما تخلف إبليس ، وركن عن أمر الله { قَالَ } سبحانه توبيخاً وتقريعاً : { يٰإِبْلِيسُ مَا لَكَ } أي : أي : شيء عرض لك يا إبليس { أَلاَّ تَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ } [ الحجر : 32 ] الخاضعين الواضعين جباههم على تراب المذلة امتثالاً للأمر الوجوبي ؟ ! . { قَالَ } إبليس محتجاً على الله ، طالباً للرجحان والمزية على سبيل الإنكار والتعريض : { لَمْ أَكُن } أي : لم يصح مني ، ولم يستحسن عني ، ولم يلق لمرتبتي { لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ } جسماني ظلماني كثيف { خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ } أكشف وأظلم منه ، وأخذت الصلصال { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 33 ] لا شيء أظلم منه وأبعد عن ساحة عز القبول ، والتمثالُ المشتمل على هذه الظلمات المتراكمة لا يليق أن يَخضع ويسجد له الروحاني النوراني . قال سبحانه طرداً له وتبعيداً : إذا تخلفت يا أبليس عن أمري ، وخرجت عن مقتضى حكمي { قَالَ } أيها المردود { فَٱخْرُجْ } أي : من بين الملائكة ، ولا تعد نفسك من زمرتهم ، فإنهم مقبولون مطيعون ، وأنت مردود ومطرود { مِنْهَا } بتخلفك عن مقتضى أمرنا { فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } [ الحجر : 34 ] بعيد عن رحمتنا وكرامتنا . { وَإِنَّ عَلَيْكَ ٱللَّعْنَةَ } والطرد والتخذيل ، نازلةُ مستمرة { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [ الحجر : 35 ] مقرك ومقيلك النار المعدة لك ، ولمن تبعك من عصاة العباد . ثمَّ لما أيس إبليس عن القبول ، وقنط عن رحمة الله { قَالَ } مشتكياً متحسراً متأوهاً : { رَبِّ } يا من ربَّاني بأنواع الكرم والنعم ، فكفرت نعمك بمخالفة أمرك { فَأَنظِرْنِي } وأمهلني { إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الحجر : 36 ] ويحشرون ؛ لأغوي بني آدم ، وأنتقم عنهم . { قَالَ } سبحانه : { فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ } [ الحجر : 37 ] لتكون عبرة للعالمين . { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ } [ الحجر : 38 ] أي : إلى وقت لا يمكن فيه تلاقي التقصير ، وكسب الزاد للمعاد ، وتهيئة الأسباب ليوم المعياد . قيل : هي النخفة الأولى لحشر الأجساد . { قَالَ } إبليس مقسماً مبالغاً : { رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي } أي : بحق قدرتك التي أغويتني وأضللتني بها ، وأحطتني عن رفعة منزلتي ، وأخرجتني من بين أحبتي وأخوتي { لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ } أعمالهم الفاسدة ، وأحسن عليهم الأفعال القبيحة { فِي ٱلأَرْضِ } وإغريتهم إلى ارتكاب أنواع المفاسد والمقابح عليها ، وأصناف الجرائم والآثام المائلة إليها نفوسهم طبعاً { وَ } بالجملة : { لأُغْوِيَنَّهُمْ } وأضلنهم { أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 39 ] بحيث لا يشذ عنهم أحد من ذوي النفوس الأمارة . { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ الحجر : 40 ] المخلصين رقابهم عن ربقة الأمارة ، المطمئنين المتمكنين في مقام الرضا والتسليم . { قَالَ } سبحانه على مقتضى إشفاقه ورحمته : { هَذَا } أي : إخلاص المخلصين المطمئنين ، الراضين بما جرى عليم من قضائي { صِرَاطٌ عَلَيَّ } وطريق موصل إلى توحيدي ، ووحدة ذاتي واستقلالي في آثار أوصافي وأسمائي { مُسْتَقِيمٌ } [ الحجر : 41 ] لا عوج فيه أصلاً ، من توجه إليّ عن هذا الطريق فاز ونجا ، بحيث لا يعرضه الضلال والانحراف أصلاً ، وكيف يعرضه ؛ ذ هو من خلَّص عبادي ؟ ! .