Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 107-114)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وما { ذٰلِكَ } أي : تحسينهم الكفر ، واستطابتهم به إلاَّ { بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ } واستطابوا { ٱلْحَيَاةَ ٱلْدُّنْيَا } أي : الحياة الصورية المستعارة الزائلة { عَلَىٰ } حياة { ٱلآخِرَةِ } التي هي الحياة المعنوية الحقيقية السرمدية التي لا زوال لها أصلاً { وَ } أيضاً بسبب { أَنَّ ٱللَّهَ } المطلع على استعدادات عباده { لاَ يَهْدِي } إلى الإيمان والتحيد { ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } [ النحل : 107 ] المجبولين على الكفر والعناد بحسب أصل فطرتهم واستعداداتهم . { أُولَـٰئِكَ } المجبولون على الكفر هم { ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ } وختم { عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } إلى حيث لا يفهمون ، ولا يتفطنون بسرائر الإيمان والتوحيد أصلاً ، ولا يتلذذون بلذاتها ؛ لغلظ حجبهم وكثافتها { وَ } على { سَمْعِهِمْ } إلى حيث لا يسمعون ، ولا يبلون دلائل التوحيد وأماراتها من أرباب الكشف واليقين { وَ } على { أَبْصَارِهِمْ } إلى حيث لا ينظرون نظر عبرة وبصارة إلى المظاهر والآثار المترتبة على الأوصاف الذاتية الإلهية { وَ } بالجملة : { أُولَـٰئِكَ } البعداء المطرودون عن عزِّ الحضور { هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } [ النحل : 108 ] المقصورون على الغفلة والنسيان ، التائهون في تيه الضلال والطغيان . { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ } بسبب طردهم وخذلانهم { فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ } [ النحل : 109 ] المقصورون على الخسران والنقصانز { ثُمَّ } بعدما سمعت أحوال أولئك المقهورين المطرودين { إِنَّ رَبَّكَ } الذي ربَّاك بأنواع الكرامات ، وأوصلك إلى أعلى المقامات يجزي خير الجزاء تفضلاً وإحساناً { لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ } عن بقعة الإمكان حين كوشفوا بما فيها من الخذلان والخسران ، وأنواع الرذائل والنقصان ، وذلك { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } بأنواع الفتن والمحن باستيلاء جنود الأمارة بالسوء عليهم { ثُمَّ جَاهَدُواْ } معها بترك مألوفاتها ، وقطع تعلقاتها ، وصرفها عن مشتهياتها ومستلذاتها { وَصَبَرُواْ } على متاعب الرياضات ، ومشاق المجاهدات إلى أن صارت أماراتهم مطمئنةً راضيةً مرضيةً ، ثمَّ بعدما قطعوا مسالك السلوك ، ومنازل التلوين والتزلزل { إِنَّ رَبَّكَ } المفضل المحسن إليك يا أكمل الرسل ، وإلى من تبعك من خيار المؤمنين { مِن بَعْدِهَا } أي : بعد المجاهدات والرياضيات { لَغَفُورٌ } يسترُ أنانيتهم ، ويغنيهم عن هوياتهم مطلقاً { رَّحِيمٌ } [ النحل : 110 ] لهم ، يمكنّهم في مقام الرضا والتسليم مطمئنين مرضيين . هب لنا من لدنك رحمةً با ذا القوة المتين . واذكر يا أكمل الرسل المبعوث إلى كافة الأنام { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ } عاصيةٍ أو مطيعةٍ { تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } أي : ذاتها ، وتهتم لشأنها بلا التفاتٍ منها إلى شفاعةٍ غيرها ؛ إذ هي رهينة ما كسبت من خيرِ وشرٍ { وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ } جزاء { مَّا عَمِلَتْ } طاعة ومعصية { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ النحل : 111 ] في جزائهم وأجورهم لا زيادةً ولا نقصاناً على مقتضى العدل الإلهي . { وَ } بعدما أراد سبحانه أن ينبه على أهل النعمة ، وأرباب الرخاء والرفاهية ، ألاَّ يبطروا ، ولا يباهوا بما في أيديهم من النعم ، ويداموا على شكرها ، وأداء حقها خوفاً من زوالها وفنائها ، وانقلابها شدةً ونقمةً { ضَرَبَ ٱللَّهُ } المدبِّر لأمورهم { مَثَلاً } تعتبرون منها وتتعظون { قَرْيَةً } هي مكة أو أيلة { كَانَتْ } نفوس أهلها { آمِنَةً } عن الخوف من العدو والجوع من نقصان الغلات والأثمار { مُّطْمَئِنَّةً } بما عندهم من الحوائج بلا تردد ومشقة ؛ إذ { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا } على الترادف والتوالي { رَغَداً } واسعاً وافراً { مِّن كُلِّ مَكَانٍ } من البلاد التي في حواليها ونواحيها . وصاروا مترفهين متنعمين إلى أن باهوا وبطروا { فَكَفَرَتْ } أهلها { بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ } الواصلة إليهم ، وأسندوها إلى غير الله عناداً ومكابرةً ، وخرجوا على رسول الله ، وطعنوا في كتاب الله { فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ } بعد خَلْعِ خِلَعِ الأمن والاطمئنان ؛ أي : مسار الجوع والخوف في سائر أعضائهم وجوارحهم سريانَ أثر العذوقات ، ونفورها إلى حيث لا ينجو عن أثرهما جزء من أجزاء البدن ، كل ذلك { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل : 112 ] من الكفران والتكذيب والطعن ، والعناد والاستكبار . { وَ } كيف لا يأخذهم ، ولا يذيقهم { لَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ } أفضل وأكمل من جميع الرسل مع كتابٍ أكمل وأشمل من سائر الكتب { فَكَذَّبُوهُ } أشد تكذيبٍ ، وأنكروه أقبح إنكارٍ { فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ } العاجل ، وهو الجدب الواقع بينهم ، أو وقعة بدر { وَ } الحال أنهم في تلك الحالة { هُمْ ظَالِمُونَ } [ النحل : 113 ] خارجون على الله ، وعلى رسوله ، والعذابُ الآجل سيأخذهم في النشأة الأخرى بأضعاف ما في النشأة الأولى . وإذا سمعتم أيها المؤمنون المعتبرون من أحوال أولئك الأشقياء ، المغمورين في بحر الغفلة والغرور ، البَطِرين بما عندهم من اللذة والسرور ، وسمعتم أيضاً أحوالهم وأهوالهم { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً } مباحاً بحسب الشرع { طَيِّباً } مما كسبتم بيمينكم على مقتضى سنة الله من خلق الأيدي والأرجل للمكاسب ، أو مما اتجرتم وربحتم ، وهو من الكسب أيضاً { وَٱشْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ } الذي أقدركم ومكَّنكم على الكسب { إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ النحل : 114 ] أي : تطيعون وتقصدون عبادته برفع الوسائل والأسباب العادية عن البَيْن .