Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 98-106)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ومن جملة الأعمال الصالحة المثمرة للحياة الطيبة المعنوية ، بل من أجلّها : قراءة القرآن المشتمل على المعارف والحقائق ، والمكاشفات والمشاهدات المترتبة على سلوك طريق التوحيد والعرفان { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ } أي : قصدتَ قراءته أيها القارئ الطالب لاستكشاف غوامض مرمزاته ، ومعضلات إشاراته { فَٱسْتَعِذْ } والتجأ أولاً { بِٱللَّهِ } المتجلي بصفة الكلام المعجز لقاطبة الأنام ، الحفيظ لخلَّص عباده من جميع ما لا يعنيهم من المعاصي والآثام { مِنَ } وساوس { ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } [ النحل : 98 ] المطرود والمعبد عن ساحة عزِّ الحضور برجوم آثار الأوصاف القهرية الإلهية ، ومن غوائله وتسويلاته التي هي جنود الهوى والغفلة ، والتخيلات الباطلة ، والتوهمات المثيرة لأنواع الأماني والشهوات . { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ } أي : استيلاء وغلبة { عَلَىٰ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بتوحيد الله ، وأيقنوا بحقية كتبه ورسله ، وباليوم الموعود وما فيه من العرض والجزاء { وَ } مع ذلك { عَلَىٰ رَبِّهِمْ } ومربيهم لا على غيره من الأسباب الوسائل العادية { يَتَوَكَّلُونَ } [ النحل : 99 ] ويُسلمون ويُسندون جميع أمورهم إليه أصالةً . وكيف يكون للشيطان استيلاء على المؤمنين الموقنين ؛ إذ هم يعادونه عداوةً شديدةً ، ويخاصمون معه مخاصمة مستمرة { إِنَّمَا سُلْطَانُهُ } واستيلاؤه { عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } ويحبونه ويقبلون قوله ، ويسمعون غوايته ، ويطيعون أمره { وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ } أي : بسبب إغوائه وإغرائه ووسوسته { مُشْرِكُونَ } [ النحل : 100 ] بالله الواحد الأحد ، المنزه عن الشريك والولد . ثمَّ قال سبحانه : { وَ } من كمال قدرتنا ، ووفور حكمتنا : نسخ بعض الآيات وتبديلها بالنسبة إلى بعض الأعصار والأزمان ، فإنا { إِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً } ناسخة { مَّكَانَ آيَةٍ } منسوخةٍ لحكمة ظهرت علينا ، ومصلحة لاحت لدينا ، فلا بدَّ ألاَّ نُسأل عن نسخنا وتبديلنا ، بل عن جميع أفعالنا مطلقاً ، ولا يُسند فعلنا إلى غيرنا مطلقاً { وَ } كيف يُسند فعله سبحانه لغيره ؛ إذ { ٱللَّهُ } المطلع لجميع ما كان ويكون اطلاع حضور وشهود { أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } بحسب الأوقات والأزمان ، فله نسخ ما ثبت ، وإثبات ما نسخ { قَالُوۤاْ } أي : المشركون المعاندون حين ظهر في القرآن نسخ بعض الآيات المثبتة ، وإثبات بعض المنسوخات القديمة متهكمين طاعنين : { إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ } أي : ما أنت أيها المدَّعي للرسالة والوحي إلاَّ مفترٍ كذاب ، قلتَ بقولٍ من تلقاء نفسك ، ثمَّ ظهر لك ما فيه ، بلدتَ بأخرى على مقتضى أهوائك وأمانيك ، ونسبته إلى ربك افتراءً ومراً ، مع أنك أخبرت أن ربك يقول : { مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ } [ ق : 29 ] ، كل ذلك ؛ أي : النسخ والتبديل ، والإنزال من عندنا لحكمة ظهرت علينا { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ النحل : 101 ] حكمة النسخ والتبديل في الأحكام ، فينكرونها . { قُلْ } لهم يا أكمل الرسل ، ما أنا مفتر في هذا النسخ والتبديل ، بل { نَزَّلَهُ } أي : القرآن { رُوحُ ٱلْقُدُسِ } أي : جبرائيل عليه السلام عليّ هكذا ، وهو منزه عن جميع النقائض ، فكيف عن الافتراء ، وأوصاني أنه منزل { مِن رَّبِّكَ } الذي ربَّاك بأنواع التربية ، وأيدك بهذا الكلام المعجز ملتبساً { بِٱلْحَقِّ } والصدق المطابق للواقع بلا شائبة شك وتردد ، وإنما أنزله { لِيُثَبِّتَ } ويقرر { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } تثبيتاً وتقريراً في مرتبة اليقين العلمي { وَهُدًى } أي : هدايةً ورشداً للعارفين المتحققين في مرتبة اليقين العيني { وَبُشْرَىٰ } أي : بشارة وتمكيناً لأهل الكشف والشهود في مرتبة اليقين الحقي ، كل ذلك { لِلْمُسْلِمِينَ } [ النحل : 102 ] المسلّمين أمورهم كلها إلى الله طوعاً ورغبة . ثمَّ أخبر سبحانه عن مطاعن المشركين بالقرآن والرسول ، فقال : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ } لا يسلّمون نزول القرآن منا وحياً وإلهاماً ، ويكذبونك يا أكمل الرسل في نسبتك إنزاله إلينا ، بل { يَقُولُونَ } ما هو إلاَّ مفترٍ { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ } هذا { بَشَرٌ } أي : عبدٌ رومي ، أو رجلٌ من العجم ، أو رجالٌ أخر على ما قالوا ، وكيف يقولون وينسبون أولئك المكابرون المعاندون هذا إلى القرآن ؛ إذ { لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ } أي : يميلون وينسبون { إِلَيْهِ } عناداً { أَعْجَمِيٌّ } معلّق غير بيّنٍ ، وأنت عربي لا تفهم لغتهم { وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ } فصيح { مُّبِينٌ } [ النحل : 103 ] واضحٌ بليغٌ في أعلى مراتب البلاغة ، بحيث عجزت عن معارضته مصاقع الخطباء مع كمال تحديهم ، ومع ظهور إعجازه واعتراف الكل بأنه معجزٌ ، لم يقبلوا حقيته ، ولم يصدقوا أنه كلام الله . { إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } الدالة على وحدة ذاته ، وكمال أوصافه وأسمائه ، طبع الله على قلوبهم وختمها ، بحيث { لاَ يَهْدِيهِمُ ٱللَّهُ } المضلُّ المذلُّ إلى حقية كتابه ورسوله الذي أنزل إليه ، بل { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النحل : 104 ] في النشأة الأولى والأخرى ، ثمَّ قلّبَ سبحانه ما فتروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأعاده عليه ، فقال : { إِنَّمَا يَفْتَرِي ٱلْكَذِبَ } على الله بنسبة كلامه إلى غيره { ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } ولا يصدقون { بِآيَاتِ ٱللَّهِ } الدالة على كمال توحيده { وَأُوْلـٰئِكَ } المفترون المسرفون { هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ } [ النحل : 105 ] المقصورون على الكذب والافتراء والمراء من شدة قسوتهم ، وخبث باطنهم . { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ } المستحق للإيمان والعبودية ، سيما ارتد { مِن بَعْدِ إيمَانِهِ } أي : بعدما آمن له - العياذ بالله - فقد استحق غضب الله وقهره { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } على الكفر ، وهَدِّدَ بالقتل وأنواع العقوبات حين العجز ، فأجرى كلمة الكفر على لسانه { وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ } متمكن فيه ، راسخ غير متزلزلٍ ، بلا مطابقةٍ وموافقةٍ بلسانه ، فهو باقٍ على إيمانه ، ولا غضب عليه ، بل له الأجر الجزيل ؛ لأن العبرة في الإيمان والكفر بالقلب ، لأنهما فعلان له أصالةً { وَلَـٰكِن } من المغضوبين { مَّن شَرَحَ } وملأ { بِالْكُفْرِ صَدْراً } اعتقاداً أو رضاءً مستحسناً له ، مستطيباً إياه { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } وقهرٌ نازلٌ { مِّنَ ٱللَّهِ } المنتقم الغيور { وَلَهُمْ } في النشأة الأخرى { عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النحل : 106 ] لعظم جرمهم الذي هو الارتداد ، العياذ بالله .