Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 16-26)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَ } نصب لكم { عَلامَاتٍ } دالة على مقاصدكم في البوادي والبراري بالتلال والوهاد { وَ } في البحار { بِٱلنَّجْمِ } أي : بالنجوم المتعارفة عند البحارين ؛ إذ { هُمْ يَهْتَدُونَ } [ النحل : 16 ] بها حين وقوعهم في لجج البحار ، كل ذلك من الدلائل الدالة على وحدة الفاعل المختار ، المتصف بجميع أوصاف الكمال ، المنزه عن مشاركة الأضداد والأمثال ، مبدع المخلوقات من كتم العدم بلا سبق مادة وزمان ، ومخترع الكائنات بلا علل وأعراض على سبيل الفضل والإحسان . { أَ } تشركون مع الله الواحد الأحد ، الفرد الصمد الذي لا شيء في الوجود سواه ، ولا إله إلاَّ هو ، يخلق ما يشاء على مقتضى جوده ورحمته ، من لا يخلق شيئاً ، بل هو من أدون المخلوقات { فَمَن يَخْلُقُ } أيها الحمقى { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } في الرتبة واستحقاق العبادة ، لوم يتفطنوا بالفرق بينهما مع جلائه وظهوره ، مع أنكم من زمرة العقلاء { أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [ النحل : 17 ] فطرتكم المجبولة على العلم والتمييز ؟ ! . { وَ } كيف تشركون مع الله المنعم المفضل ، مع أنكم { إِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ } الفائضة عليكم ، وآلاءه الواصلة إليكم { لاَ تُحْصُوهَآ } لكثرتها ووفورها ، ومع ذلك أشركتم معه غيره ، وكفرتم بنعمه ، مع أن المناسب لكم الرجوع إليه ، والإنابة نحوه { إِنَّ ٱللَّهَ } المطلع لضمائر عباده { لَغَفُورٌ } لمن تاب وآمن ، وعمل صالحاً { رَّحِيمٌ } [ النحل : 18 ] يقبل توبتهم ، ويتجاوز عن سيئاتهم لو أخلصوا . { وَٱللَّهُ } المصلح لأحوال عباده { يَعْلَمُ } منهم { مَا تُسِرُّونَ } في قلوبكم بلا موافقة ألسنتكم { وَمَا تُعْلِنُونَ } [ الحل : 19 ] بألسنتكم بلا مطابقة قلوبكم ، فعليكم أيها المؤمنون المنيبون أن تنيبوا نحو الحق سراً وعلانية حتى لا تكونوا من المنفاقين المخادعين مع اللهز { وَ } اعلموا أيها المشركون المكابرون أن { ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } المعبود بالحق آلهةً ، وتعبدونها إفكاً كعبادته سبحانه ، مع أنهم لا يستحقون الألوهية ؛ إذ { لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً } حقيراً ، وكيف بالعظيم ، بل { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [ النحل : 20 ] مخلوقون . بل هم من أدون المخلوقات ؛ لأنهم { أَمْواتٌ } أي : جمادات لا شعور لها أصلاً ؛ لأنهم { غَيْرُ أَحْيَآءٍ } أي : غير ذي حس وحركة إرادية { وَ } كذلك { مَا يَشْعُرُونَ } شعور الحيوانات { أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } [ النحل : 21 ] أي : إلى أن يحشرون ويساقون من المرعى ، فهم في أنفسهم أدى وأخص من الحيوانات العجم ، فيكف تتأتى منهم الألوهية المستلزمة للاطلاع على جميع المغيبات الجارية في العوالم كلها اطلاع حضر وشهود ؟ ! . بل { إِلٰهُكُمْ } الذي أوجدكم من كتم العدم ، وأظهركم في فضاء الوجود { إِلٰهٌ وَاحِدٌ } أحد صمد ، لم يكن له كف ، ولا شريك { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ، إنما يظهر وينكشف توحيده سبحانه لأولي العزائم والنهي ، من أرباب المحبة والولاء في النشأة الأولى والأخرى { فَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ } المعدة لشرف اللقاء { قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ } بلقاء الله فيها { وَهُم } من شدة شكيمتهم ، وكثافة حجبهم مع إنزال الكتب المبينة لأحوالها وأهوالها ، والرسل المنبهين لهم عليها { مُّسْتَكْبِرُونَ } [ النحل : 22 ] مترددون عتواً وعناداً . لذلك { لاَ جَرَمَ } أي : حقاً على الله يعذبهم ، مع { أَنَّ ٱللَّهَ } المطلع لسرائرهم وضمائرهم { يَعْلَمُ } بعلمه الحضوري { مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } من الكفر والضلال ، فيجازيهم على مقتضى علمه بحالهم ، ولا يحسن إليهم سبحانه بدل إستاءتهم ؛ لأنهم مستكبرون { إِنَّهُ } سبحانه { لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ } [ النحل : 23 ] لاشتراكهم معه سبحانه في أخص أوصافه ؛ إذ الكبرياء مخصوص به ، لا يسع لأحد أن يشارك معه فيه . { وَ } من غاية عتوهم واستكبارهم { إِذَا قِيلَ لَهُمْ } على سبيل الاستفسار : { مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ } على نبيكم { قَالُواْ } على سبيل التهكم والاستهزاء : ما أنزل ربه إلاَّ { أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } [ النحل : 24 ] أي : الأكاذيب والأرجفة التي سطرها الألولون فيما مضى من تلقاء نفوسهم . وإنما قالوا ذلك وشاعوا به بين الأنامه { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ } وآثامهم { كَامِلَةً } بلا تخفيف شيء منها ولا نقصانٍ ؛ ليؤاخذوا عليها { يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَ } يحملوا أيضاً { مِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ } من ضعفاء الناس بقولهم هذا إياهم ، مع أنهم خالية الأذهان { بِغَيْرِ عِلْمٍ } يتعلق منهم بالقبرآن وإعجازه ، ومع ذلك لا يعذرون ؛ لعدم التفاتهم إلى التأمل والتدبر حتى يظهر عليهم حقيته وبطلان قولهم { أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } [ انحل : 25 ] المضلون بضلالهم ، والضالون بضلالهم ، وعدم تأملهم وتدبرهم ، مع أنهم مجبولون على التأمل والتدبر . هذا التكذيب والإضلال ، والتهكم والاستهزاء من الأمور الحادثة بين أولئك الهالكين في تيه الشرك والطغيان ، بل من ديدنهم القديمة ، وعادتهم المستمرة ؛ إذ { قَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ } مضوا { مِنْ قَبْلِهِمْ } واحتالوا لإضلال العوام ، وبنوا أبنية رفيعة للصعود إلى السماء ، والمقاتلة مع سكانها وإلهها ، ثمَّ لما تم بنيانهم وقصورهم { فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَانَهُمْ } أي : أتى أمره سبحانه بإهلاكهم وتعذيبهم بهدم بنائهم { مِّنَ ٱلْقَوَاعِدِ } والأعمدة والأساس التي بُنيت عليها البناء ، فتضعضعت وتحركت الدعائم { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ } وهم تحته متمكنون مترفهون ، فهلكوا { وَ } بالجملة : { أَتَاهُمُ ٱلْعَذَابُ } بغتةً { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } [ النحل : 26 ] أماراتها قبل نزوله .