Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 56-64)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والعجب كل العجب ينكرن بنا ، مع أنا متصفون بجميع أوصاف الكمال ، منعمون لهم بالنعم الجليلة الجزيلة { وَيَجْعَلُونَ } ويعينون { لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } أي : لآلهتهم التي لا يعلمون ولا يفهمون منهم حصول الفائدة لهم ، وجلب النفع إليهم أصلاً ؛ إذ هي جمادات نحتوها بأيديهم { نَصِيباً } أي : حظاً كاملاً { مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ } وسقنا نحوهم جهلاً وعناداً ، ومع ذلك خيلوا أنهم لا يسألون عنها ، ولا يؤاخذون عليها ، بل يثابون بها على زعمهم الفاسد ، ورأيهم الكاسد { تَٱللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ } أيها المسرفون { عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } [ النحل : 56 ] علينا بإثبات الشركاء ، وإسناد نعمنا إليهم افتراءً ومراءً . { وَ } من جملة متفرياتهم بالله المنزه عن الأشياء والأولاد : إنهم { يَجْعَلُونَ } ويثبتون { لِلَّهِ ٱلْبَنَاتِ } حيث يقولون : الملائكة بنات الله ، مع أنهم يكرهونها لأنفسهم { سُبْحَانَهُ } وتعالى عما يقولون علواً كبيراً { وَلَهُمْ } أي : يثبتون لأنفسهم { مَّا يَشْتَهُونَ } [ النحل : 57 ] من البنين . { وَ } الحال أنهم { إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأُنْثَىٰ } أي : بولادتها { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً } أي : صار وجهه أسود من غاية الحزن والكراهة { وَهُوَ } حينئذٍ { كَظِيمٌ } [ النحل : 58 ] ممتلئ من الغيظ والبغض على الزوجة والوليدة . وصار من شدة الغم والهم إلى حيث { يَتَوَارَىٰ } ويستتر { مِنَ ٱلْقَوْمِ } استحياءً { مِن سُوۤءِ مَا بُشِّرَ بِهِ } أي : الوليدة المبشرة بها ، وتردد في أمرها { أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ } أي : هوان ومذلة { أَمْ يَدُسُّهُ } ويخفيه { فِي ٱلتُّرَابِ } غيرةً وحميةً { أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ النحل : 59 ] لأنفسهم ما يشتهون ، والله المنزه عن الولد ما يكرهون . ثمَّ قال سبحانه : { لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ } المعدة لعرض الأعمال على الله والجزاء منه على مقتضاها { مَثَلُ ٱلسَّوْءِ } في حق الله المنزه عن الأهل والولد ، سيما نسبتهم إليه ما يستقبحه نفوسهم من إثبات البنات له ، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً { وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ } هو الغني عن العالم ما فيها ، فكيف الزواج الإيلاد ، واللذين هما من أقوى أسباب الإمكان النافي للوجوب الذاتي الذي هو من لوازم الألوهية والربوبية { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } الغالب المتفرد ، المنيع ساحة عزته عن الاحتياج إلى غيره مطلقاً ، فكيف إلى الزجة والولد { ٱلْحَكِيمُ } [ النحل : 60 ] المتصف بكمال الحكمة المتقنة ، كيف يختار لذاته ما لا يخلو عن وصمة النقصان ؟ ! . ثمَّ قال سبحانه : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ } الحكيم المتقن في أفعاله { ٱلنَّاسَ } الناسين عهود العبودية على مقتضى عدله وانتقامه { بِظُلْمِهِمْ } ومعاصبهم الصادرة عنهم دائماً { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا } أي : على وجه الأرض { مِن دَآبَّةٍ } أي : ذي حركة تتحرك عليها ؛ إذ ما من متحرك إلاَّ وينحرف عن جادة العدالة كثيراً { وَلٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ } ويمهلهم على مقتضى فضل وحكمته ولطفه { إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ } أي : سمّاه الله وعينه في علمه لموتهم { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ } المسمى المبرم المقضى به { لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ النحل : 61 ] أي : لا يسع لهم الاستئخار والاستقدام ، بل لا بدَّ أن يموتوا فيه حتماً مقضياً . { وَ } من خبث باطنهم { يَجْعَلُونَ } وينسبون { لِلَّهِ } المنزه عن الأنداد والأولاد { مَا يَكْرَهُونَ } مايستقبحون لنفوسهم ، وهو إثبات البنات له سبحانه { وَ } مع ذلك { تَصِفُ } وتقول { أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ } تصريحاً وتنصيصاً { أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ } أي : بأن لهم المثوبة العظمى ، والدرجة العليا عند الله ، بل { لاَ جَرَمَ } أي : حقّاً عله وحتماً { أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ } أي : جزاؤه مقصورُ على النار ، مخلدون فيها { وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } [ النحل : 62 ] ي العذاب ، مقدَّمون على جميع العصاة والطغاة الداخلين في النار ، المجزين بها ؛ لاستكبارهم على الله ورسله . { تَٱللَّهِ } يا أكمل الرسل { لَقَدْ أَرْسَلْنَآ } رسلاً { إِلَىٰ أُمَمٍ } مضوا { مِّن قَبْلِكَ } حين فشا الجدال والمراد بينهم ، فانحرفوا عن جادة الاعتدال ، وأيدنا الرسل بالكتب المبينة لطريق العدالة والاستقامة ، فبينوا لهم على أبلغ وجه { فَزَيَّنَ } وحسّن { لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ } المغوي المضل { أَعْمَالَهُمْ } التي كانوا عليها ، فأصروا على أعمالهم ، فلم يقبلوا قول الأنبياء ؛ لذلك نزل عليهم من العذاب ما نزل في الدنيا ، وسينزل في الآخرة بأضعافه وآلافه { فَهُوَ } أي : الشيطان { وَلِيُّهُمُ } أي : متولي أمور هؤلاء عنهم { ٱلْيَوْمَ } لذلك لم يقبلوا قولك ، ولم يسمعوا بيانك ، بل أصروا على ما عليه أسلافهم من الغواية والضلالة { وَلَهُمْ } أيضاً مثل أسلافهم ، بل أشد منهم { عَذَابٌ } في النشأة الأولى والأخرى { أَلِيمٌ } [ النحل : 63 ] مؤلم أشد إيلام ؛ لأن بيانك وتبليغك أكمل من بيان سائر الأنبياء . { وَمَآ أَنْزَلْنَا } من مقام جودنا وفضلنا { عَلَيْكَ } يا أكمل الرسل { ٱلْكِتَابَ } الجامع لما في الكتب السالفة مع زيادات خلت عنهم تلك الكتب { إِلاَّ لِتُبَيِّنَ } وتوضح { لَهُمُ } أي : للناس الأمر { ٱلَّذِي ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } أي : التوحيد الذاتي وأحوال النشأة الأخرى ، والمكاشفات والمشاهدات الواقعة فيها { وَ } أنزلناه أيضاً { هُدًى } أي : هادياً ، يهديهم إلى التوحيد ببيان براهنيه وحججه الموصلة إليه بالنسبة إلى أرباب المعاملات والمجاهدات ، من الأبرار السائرين إلى الله بارتكاب الرياضات القالعة لدرن الإمكان ، ورين التعلقات . { وَرَحْمَةً } أي : كشفاً وشهوداً بالنسبة إلى المجذوبين المنجذبين نحو الحق ، المنخلعين عن جلباب ناسوتهم بغتة ، بلا صنعٍ صدر عنهم ، وأمرٍ ظهر منهم ، بل جذبهم الحق عن بشريتهم ، وبدَّلهم تبديلاً ، كل ذلك { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ النحل : 64 ] ويوقنون بتوحيد الله وصفاته الذاتية ، ويتأملون في آثار مصنوعاته تأملاً صادقاً ، ويعتبرون منها اعتباراً حقّاً إلى أن ينكشفوا ويفوزوا بما فازوا ، وينالوا بما نالوا ، وليس وراء الله مرمى ولا منتهى .