Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 28-38)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثمَّ قال سبحانه : { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ } أي : إن تحقق إعراضك ومنعك عن هؤلاء المستحقين المذكورين ، سيما بعدما سألوا عنك العطاء { ٱبْتِغَآءَ رَحْمَةٍ } أي : طلب رحمة وشفقة مرجوة { مِّن رَّبِّكَ } حال كونك { تَرْجُوهَا } أي : الرحمة لهم ؛ لعلمك بأنهم صرفوها إلى القبائح والمعصية ، فعليك أن تمنعهم وتردهم هيناً ليناً ، بلا تشدد وغلظة { فَقُل لَّهُمْ } حين دفعهم : { قَوْلاً مَّيْسُوراً } [ الإسراء : 28 ] سهلا ً إلى حيث لا ييأسوا ولا يحزنوا ، مثل أن تقول : سَّل الله علينا وعليكم ، ويسَّر لنا ولكم من فضله وجوده . وبعدما نهى سبحانه عن التبذير صريحاً ، والإعراض عن صرف النعمة إلى المعصية ، نهى عن مطلق البخل والتبذير المذمومين تأكيداً ومبالغةً ، فقال : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً } معقودة { إِلَىٰ عُنُقِكَ } بحيث لا يسع لك إعطاء شيء مما رزق الله لك على مستحقه شُحّاً وبخلاً ؛ إذ هو إفراطٌ وتقترٌ { وَ } أيضاً { لاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } بحيث لا قرار لك عندها أصلاً ، فهذا تفريطٌ وتبذيرٌ ، وكلاهما مذمومان شرعاً وعقلاً ، فعليك بالاقتصاد الذي هو عبارة عن الكرم والجود ، وهو صراط الله الأعدل الأقوم { فَتَقْعُدَ } بعد اتصافك بالبخل والتقتير { مَلُوماً } عند الله ، وعند الملائكة والناس أجمعين ، واتصفت بالتبذير والإسراف ، تقعد { مَّحْسُوراً } [ الإسراء : 29 ] نادماً متحسراً ، قلقاً حائزاً في نظم معاشك . { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ } الصوري والمعنوي ، ويوسعه { لِمَن يَشَآءُ } من عباده على مقتضى علمه بحالهم ، وسعة استعدادهم ، وقابلية حوصلتهم { وَيَقْدِرُ } أي : يقبض ويضيّق لمن يشاء منهم على مقتضى علمه يضيق صدرهم ، وقلة تمكنهم ووقارهم ؛ إذ الله الحكيم المتقن في أفعاله لا يتجاوز عن مقتضى حكمته { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ } عليماً { خَبِيراً } عن بواطنهم وصمائرهم ، وما يؤول إليهم أمورهم { بَصِيراً } [ الإسراء : 30 ] بظواهر أحوالهم ، وتقلباتهم في شئونهم وتطوراتههم . { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ } أيها البالغون لرتبة التكليف الإلهي { أَوْلادَكُمْ } الحاصلة من أصلابكم ، سواء كانوا بنين أو بنات بلا رخصة شرعية ، سيما { خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } أي : فقر وفاقة ؛ إذ { نَّحْنُ } من سعةً جودنا ، ووفور رحمتنا { نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } إذ لا رازق لكم ولهم سوانا { إنَّ قَتْلَهُمْ } إن صدر عنكم { كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } [ الإسراء : 31 ] أي : ذنباً عظيماً . { وَ } عليكم أيها المؤمنون المتدرجون في مسالك التحقيق أن { لاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ } بترتيب مقدمات تترتب عليها تلك الفعلة القبيحة ، فكيف الإتيان بها . العياذ بالله { إِنَّهُ } إي : الزنا { كَانَ فَاحِشَةً } مسقطة للعدالة ، مزيلة للمروءة ، مبطلة لحكمة التناسل التي هي المعرفة الإلهية ؛ إذ ولد الزنا لا يبلغ مرتبة الولاية والعرفان أصلاً { وَسَآءَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 32 ] لقضاء الشهوة المعدَّة لسر الظهور والإظهار من لدن حكيم عليم . { وَ } عليكم أيضاً أيها الموحدون القاصدون إلى معارج التوحيد أن { لاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ } قتلها ؛ إذ هي بيت الله ، وتخريب بيته من أعظم الكبائر { إِلاَّ بِٱلحَقِّ } أي : إلاَّ برخصة شرعية من قصاص وحدٌ وردَّة ، إلى غير ذلك من الأمور التي عيّنها الشرع { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً } بلا رخصة شرعية { فَقَدْ جَعَلْنَا } بمقتضى عدلنا { لِوَلِيِّهِ } أي : لمن يلي أمر المقتول بعده { سُلْطَاناً } سطوة وغلبة على القائتل الظالم مع معاونة الحكام له { فَلاَ يُسْرِف } أي : الولي المنتقم { فِّي ٱلْقَتْلِ } لقصاص المقتول المظلوم بأن يقتل غير القاتل بدله ، أو يُقتل هو مع غيره ، وكيف لا يُقتل الظالم بدل المقتول المظلوم { إِنَّهُ كَانَ } أي : المظلوم { مَنْصُوراً } [ الإسراء : 33 ] عند الله ، وعند جميع الخلائق ؟ ! . { وَ } عليكم أيضاً أيها المتوجهون نحو الحق بالعزيمة الصحيحة ، والقصد الخالص أن { لاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ } الذي لا متعهد له من الأبوين { إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } بحالهم من ازدياد أموالهم وتنميته ، وحفظه وتعميره على وجه العدالة والمروءة { حَتَّىٰ يَبْلُغَ } اليتيم { أَشُدَّهُ } أي : رشده ، وبلغ إلى سن التمييز والتصرف ، فلكم أيها المتعهدون المتحفظون لأموال اليتامى ردها إليهم بعد اختيارهم وامتحانهم مراراً ، وبالجملة : لكم أيها الموحدون الإيفاء والوفاء بالعهود والمواثيق مطلقاً ، سواء كانت مما بينكم وبين الله ، أو بين المؤمنين من عباده { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ } والميثاق { كَانَ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 34 ] في النشأة الأخرى ، وناقضة مؤاخذاً ، وموفيه مأجوراً . { وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ } أي : عليكم أيفاء الكيل { إِذا كِلْتُمْ } لغيركم { وَزِنُواْ } أيضاً ، إذا زنتم { بِٱلقِسْطَاسِ } أي : الميزان . وهو لفظ سرياني : { ٱلْمُسْتَقِيمِ } الذي لا ميل له إلى جانبٍ ، بل صار كفتاه على السوية بلا ميل { ذٰلِكَ } أي : إيفاؤكم واستقامتكم في المكيال والميزان { خَيْرٌ } جالب لأنواع الخيرات في الدنيا { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ الإسراء : 35 ] أي : عاقبةً ومآلاً في العقبى . { وَلاَ تَقْفُ } أي : لا تتبع أيها المؤمن الموقن ، الطالب للوصول إلى مرتبة التوحيد { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي : ما لم يتعلق علمك به تقليداً أو تخميناً ؛ إذ أنت يوم الجزاء مسئول عما رُمته بلا علمٍ ، وأقدمتَ عليه بأي عضو وجارحة ، وقلتَهُ رجماً بالغيب { إِنَّ ٱلسَّمْعَ } قدمه ، لأنه نُسبتُ إليه أكثر المفتريات والكواذب { وَٱلْبَصَرَ } لأن النفس تقع في أكثر الفتن والمهالك برؤية البصر { وَٱلْفُؤَادَ } الذي هو أصل في إنشاء الكواذب والمزروّرات { كُلُّ أُولـٰئِكَ } أي : كل واحد من القوى الثلاثة { كَانَ } يوم القيامة { عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 ] فتقرُّ أولئك القوى بدما سُئل عمَّا صدرت منها من المعاصي ، فيفتضح صاحبها على رءوس الأشهاد . { وَلاَ تَمْشِ } أيها الطالب لعدالة التوحيد والعرفان { فِي ٱلأَرْضِ } التي أعدت للتذلل والانسكار ، والتواضع والخشوع { مَرَحاً } ذا كبرٍ وخيلاٍ ، فكيف تختال وتتكبر أيها لمهان المخلوق من المهين { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلأَرْضَ } بشدة قولتك ووطأتك { وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ } باستعلائك واستكبارك { طُولاً } [ الإسراء : 37 ] أي : مدة متطاولة حتى تستعلي بها على من دونك ؟ ! وبالجملة : لا تتكبر ولا تتجبر أيها العاجز الضعيف مع ضعفك ، وقصير عمرك . { كُلُّ ذٰلِكَ } من النواهي المذكورة ، مِنْ { لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } [ الإسراء : 22 ] إلى هنا { كَانَ سَيِّئُهُ } أي : ثبت وتحقق كونه سيئة ، وإنما { عِنْدَ رَبِّكَ } لذلك كان { مَكْرُوهاً } [ الإسراء : 38 ] منهياً عنه ، مبغوضاً عليه .