Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 39-49)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ ذَلِكَ } المذكور من الأحكام المتقدمة ، مِنْ أول السورة إلى هنا { مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ } يا أكمل الرسل تربيتةً لك ، وتأييداً لأمرك { مِنَ ٱلْحِكْمَةِ } المتقنة التي يجب الامتثال والانصاف بها على من أراد سلوك سبيل التوحيد ، المبنيِّ على عدالة الأخلاق والأطوار والشئون { وَ } معظم المنهيات والمحظورات : الشرك بالله . العياذ بالله منه . لذلك كرره تأكيداً ومبالغةً ، وبالغ في الاحتراز عنه حبيبه ، حيث قال : { لاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ } المتوحد المتفرد في ذاته ، المعبود بالحق والاستحقاق { إِلَـٰهاً آخَرَ } يعبد له كعبادته ، وإن اتخذتَ إليهاً سواه { فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ } البعد والخذلان ، حال كونك { مَلُوماً } تلوم نفسك بأنواع الملومات بما ضاع عنك من التوحيد المنجي عن جميع المضائق والمهالك { مَّدْحُوراً } [ الإسراء : 39 ] مبعدً عن رحمة الله ، وسعة فضله وإحسانه . { أَ } تزعمون أيها المشركون المستكبرون أن الله المتعزز برداء العظمة والكبرياء فضَّلكم على نفسه { فَأَصْفَاكُمْ } أي : خصصكم واجتباكم { رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ } الذين هم أكرم الأولاد وأشرفها { وَٱتَّخَذَ } لنفسه أولاداً { مِنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ إِنَاثاً } نواقص عقلاً وديناً { إِنَّكُمْ } أيها المسرفون بإقدامكم واجترائكم على الله بأمثال هذه الهذيانات الباطلة { لَتَقُولُونَ } في حق الله { قَوْلاً عَظِيماً } [ الإسراء : 40 ] بهتاناً وزوراً ، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً . إذ نسبة الأولاد إلى الصمد المنزه عن الأنداد في نهاية الشناعة والفساد ، وأشنعُ منه نسبة الإناث إليه ، ثمَّ نسبة الملائكة الذين هم من أفضل عباد الله وأشرفهم إلى الأنوثة المستحقرة المذمومة شرعاً وعقلاً ، هذا مع غاية الإفراط في حق الله ، والتفريط في خلَّص عباده ؛ لذلك وصف سبحانه هذا القول الشنيع بالعظمة . ثمَّ قال سبحانه توبيخاً لهم وتقريعاً ، وإشارةً إلى تناهيهم في الضلال والطغيان : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } وكررنا مراراً شناعةَ هذا القول ؛ أي : نسبة الولد إلى الله الصمد المنزه في ذاته عن الأهل والولد { فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ } المنزل لهداية أهل الغي والضلال { لِيَذَّكَّرُواْ } أي : ليتذكروا ويتعظوا ، ويتفطنوا إلى وخامة عواقبه ومآله ، ومع ذلك لم يتذكروا ولم يتفطنوا ، بل { وَمَا يَزِيدُهُمْ } التكرار والمبالغة { إِلاَّ نُفُوراً } [ الإسراء : 41 ] إعراضاً عن الحق ، وإصراراً على ما عليه من الباطل . { قُلْ } لهم يا أكمل الرسل إلزاماً وتبكيتاً : { لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ } أمثاله { كَمَا يَقُولُونَ } وتدَّعون أيها المشركون ، هم معبودون بالحق ، مستحقون للعبادة كما زعمتم { إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ } ولطلبوا { إِلَىٰ } معاداة { ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] ليغلبوا عليه ، ويستولوا على ملكه ، كما يفعل الولاة بعضهم مع بعض ؛ إذ لو عجزوا عن مماراته ومقابلته ، لم يكونوا مثله ، فلم يستحقوةا للعبادة المطلقة مثله . { سُبْحَانَهُ } أي : نزه سبحانه ذاته تنزيهاً بليغاً ، وقدس تقديساً متناهياً في القدس والنزاهة { وَتَعَالَىٰ } أي : تَرفَّع وتعاظم { عَمَّا يَقُولُونَ } هؤلاء الظالمون ، المسرفون المفرطون في شأنه من إثبات الشريك المماثل له ، والكفء المتكافىء معه { عُلُوّاً كَبِيراً } [ الإسراء : 43 ] أي : تعالياً وتباعداً في غاية البعد والاستحالة ؛ إذ لا موجود سواه ، ولا إله غيره . كيف تغفلون وتذهلون عن دلائل توحيده الحق وشواهده أيها الضالون المضلون ، مع أنكم مجبولون على فطرة المعرفة والتوحيد ، ومع ذلك { تُسَبِّحُ لَهُ } وتُقدّس ذاته عن الشريك والولد ، والكفء والنظير { ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ } المطبقة المعلقة المنضودة ، المنظومة على أبلغ النظام وأعجبه ، مع ما فيها من الكواكب المختلفة الألوان والأشكال ، والمنازل والحركات والآثار المترتبة عليها ، ومع ما فيها من عجائب المخلوقات ، وغرائب المبدعات والمخترعات التي لا علم لنا إلاَّ بأنياتها دون لمياتها ، كل ذلك يدل على وحدة مظهرها وبارئها { وَٱلأَرْضُ } وما عليها من أنواع النباتات والمعادن والحيوانات التي عجزت عن إحصائها ألسنة أولي البصائر والنهى ، المعتبرين المتأملين في مصنوعات الحق ، وعجائب مخترعاته { وَمَن فِيهِنَّ } من الملائكة والثقلين المجبولين على عبادة الحق وعرفانه . { وَ } بالجملة : { إِن مِّن شَيْءٍ } أي : ما من شيء مما يطلق عليه اسم الشيء ، ويمتد عليه ظلُّ الوجود { إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } أي : ينزهه ويقدسه عن شوب الحدوث والإمكان ، بعضها بالحال ، وبعضها بالمقال ، سيما عن أقوى أمارات الإمكان التي هي الإيلاد والاستيلاد . { وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ } تفهمون أيها المنهمكون في الغيِّ والضلال { تَسْبِيحَهُمْ } لعدم اشتغالكم بالتدبر والتأمل في مصنوعات الحق ، والتفكر في آياته ، بل تنكرونها وتصرون على القدح فيها عناداً ومكابرةً ، وتشركون بالله . العياذ بالله منه . أنداداً وبذلك استوجبتم أشدَّ العذاب والنكال ، فأمهلكم الله { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً } لا يعاجل بالانتقام والعقوبة رجاءَ أن تتعظوا وترجعوا نحوه بالتوبة والندم على وجه الإخلاص ، فيغفر زلتكم كلها ، إنه كان { غَفُوراً } [ الإسراء : 44 ] للأوَّابين التوابين ، الرجَّاعين إليه بكمال الندم والإخلاص ، وإن عظمت زلتهم ، وثرت معصيتهم . { وَ } من كمال لطفنا معك يا أكمل الرسل ، وغاية حفظنا وحراستنا إياك { إِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ } واستغرقت في لجج رموزه وإشاراته ، وخضتَ ي تيار بحاره لِطَلَبِ فرائد فوائده ، وصرتَ من غاية استغراقك وتلذذك بها إلى أن غبتَ عن محافظة نفسك ، ومراقبة حالك { جَعَلْنَا } وصيرنا { بَيْنَكَ وَبَيْنَ } القوم { ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ } ولا يوقنون بالأمور المترتبة عليها فيها { حِجَاباً } غليظاً ، وغشاءً كثيفاً { مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ] بسترك عن أعين أعدائك ، القاصدين لك سوءاً ، مع أنهم لا يرون الحجب أيضاً . روى سعيد بن جبير رضي الله عنه أنه لما نزلت : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [ المسد : 1 ] جاءت امرأته بحجرٍ لترضخ به رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو جالس مع أبي بكر رضي الله عنه ، فسألت : أين صاحبك ، لقد بلغني أنه هجاني ؟ فقال أبو بكر : ما نطق صاحبي بالشعر ، ثمَّ قال أبو بكر : ما رأتك يا رسول الله ، فقال : صلى الله عليه سلم " لَمْ يَزَلْ مَلَكٌ بَيْنِيْ وَبَيْنَ أَعْدَائِيْ ، أَنَا أَرَاهُمْ وَلاْ يَرَوْنَنِيْ " . { وَ } كيف لا يكون الكافر محجوباً مستوراً عن سرائر القرآن ومرموزاته ؛ إذ { جَعَلْنَا } أي : غطَّينا { عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } غشاوةً كثيفةً تمنعهم { أَن يَفْقَهُوهُ } ويفهموا معناه { وَ } جعلنا { فِيۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْراً } أي : حمماً وثقلاً ، يمنعهم عن استماع ألفاظه حتى يتأملوا ويتدبروا في معناه { وَ } من غلظ غشاوتهم ، وكثافة أكنتهم { إِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي ٱلْقُرْءَانِ وَحْدَهُ } منفرداً ، بلا ذكر آلهتهم { وَلَّوْاْ عَلَىٰ أَدْبَٰرِهِمْ } معرضين كارهين { نُفُوراً } [ الإسراء : 46 ] متنفرين ساخطين عليك ؟ ! . ولا تبال يا أكمل الرسل بهم ، وبسماعهمه واستماعهم وعدمه ، ولا تلتفت نحوهم ؛ إذ { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ } أي : يفرضون المتعلق باستماعهم الذي هو الاستهزاء والسخرية ، وقت { إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَ } كيف لا يكونون مستهزئين مستسخرين { إِذْ هُمْ } حين استماعهم كلامك { نَجْوَىٰ } أي : ذوو مناجاة ، يضمرون في نفوسهم مقتك وهلاكك ، وأقله الاستهزاء معك ؟ ! اذكر { إِذْ يَقُولُ ٱلظَّالِمُونَ } منهم على سبيل العناد والمكابرة لأهل العدل والتوحيد : { إِن تَتَّبِعُونَ } أي : ما تتبعون أيها الضالون { إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } [ الإسراء : 47 ] سحر به فجن ، فاختلط كلامه ، وذهب عقله ، وتكلم من تلقاء نفسه كلاماً يشبه كلام العقلاء . { ٱنْظُرْ } أيها الناظر بنور الله ، المؤيَّد من عنده { كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ } الحشو والبتراء من غاية اضطرابهم وتهالكهم ، مرةً يقولون : إنك شاعرٌ ، ومرةً : ساحرٌ ، ومرةً : كاهنٌ ، ومرةً : مجنونُ { فَضَلُّواْ } عن طريق الحق في جميع ما نسبوا إليك ، وإلى ما جئت به من الكلام المعجز في أعلى مراتب الإعجاز { فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ } إلى مقتلك وقدح كتابك { سَبِيلاً } [ الإسراء : 48 ] واضحاً موجهاً ، بل خبطوا في جميع ما نسبوا خبط عشوا ، فضلّوا عن السبيل السواء . { وَ } من غاية انهماكهم في الغيّ والضلال ، ونهاية إنكارهم بحقية القرآن { قَالُوۤاْ } مستبعدين متعجبين على سبيل التهكم والاستهزاء { أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً } أي : أنبعث ونُحيي بعدما صرنا عظاماً باليةً رميمةً { وَرُفَاتاً } أي : غباراً مرفوتاً ، تذروه الرياح { أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } محشورون من قبورنا { خَلْقاً } آخر { جَدِيداً } [ الإسراء : 49 ] معاداً للخلق الأول ، لا مثلاً له ، بل عيناً ، بلا مغايرة أصلاً ، كلاَّ وحاشا ، من أين لنا هذا ؟ ! .