Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 50-58)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ قُلْ } يا أكمل الرسل في جوابهم تبكيتاً لهم والزاماً : لا تستبعدوا أيها الضالون المعاندون أمثال هذا البعث والحياء عن قدرة الله في الأشياء التي عهدوا حياتهم من قبل ؛ إذ لا بُعْدَ ولا غرابة فيها ، بل { كُونُواْ حِجَارَةً } أبعد بمراحل عن قبول الحياة { أَوْ حَدِيداً } [ الإسراء : 50 ] هو أشدّ بعداً . { أَوْ خَلْقاً } آخر مثلاً ، هو { مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } ويستحيل في نفوسكم اتصافه بالحياة ، فالله المقتدر بالقدرة الكاملة ، والقوة الشاملة قادر على إحيائها وإيجادها ، إن تعلقتْ إرادته ، ومضت مشيئته على تكوينه وإظهاره ، ثمَّ بعدما أُفحموا من سماع الحجة القوية ، وانحسرت عقولهم عن المقابلة معها { فَسَيَقُولُونَ } مستفهمين عن تعيين الحق المبدئ المعيد على سبيل الإنكار : { مَن يُعِيدُنَا } بعد موتنا وصيرورتنا عظاماً ورفاتاً ؟ { قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ } وأظهركم من كتم العدم { أَوَّلَ مَرَّةٍ } إظهاراً إبداعياً ، وإيجاداً اختراعياً ، بلا سبق مادةٍ ومدةٍ ، فإعادتكم أهون عليه من إبدائكم وإبداعكم . وبعدما سمعوا منك قولك { فَسَيُنْغِضُونَ } ويحركون { إِلَيْكَ } أيها المؤيَّد من عند الله لإلزام أولئك الغواة الطغاة ، الهالكين في تيه المكابرة والعناد { رُؤُوسَهُمْ } على وجه الاستبعاد والاستهزاء { وَيَقُولُونَ } مستسخرين : { مَتَىٰ هُوَ } مع أن الأنبياء الماضين يدَّعون مثلك قيامها ، فلم تقع بعدُ ، وأنت أيضاً تدَّعى ، فلا تقع ، وما هي إِلاَّ مجرد الدعوى منكم ومنهم ، بلا وقوعٍ ولا وروردٍ ؟ ! { قُلْ } لهم يا أكمل الرسل : { عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيباً } [ الإسراء : 51 ] أي : بعدما ختم أمر الرسالة والتشريع ، وكمُل بناء الدين ، قَرُبَ وقوعها . فانتظروا أيها المؤمنون المصدقون ليوم البعث والحشر مترصدين مترقبين { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } الله للبعث والحشر { فَتَسْتَجِيبُونَ } طائعين راغبين ملتبسين { بِحَمْدِهِ } معترفين على كمال قدرته ، ووفور حوله وقوته { وَ } تذكروا من طول ذلك اليوم ، وشدة أهواله وإفزاعه ، حيث { تَظُنُّونَ } وتعتقدون فيه { إِن لَّبِثْتُمْ } أي : ما لبثتم وأقمتم في النشأة الأولى { إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 52 ] أي : تستقلون وتستقصرون مدة لبثكم فيها من كثرة شدائدها وأهوالها . { وَقُل } يا أكمل الرسل على سبيل العظة والتذكير ، وتهذيب الأخلاق ، وتصفية الباطن { لِّعِبَادِي } يعني : المؤمنين الموقنين لشئوني وظهوري على سبيل جلياتي في النشأة الأولى والأخرى ، إذا أرادوا إهداء التائهين في بحر الغفلة والضلال : { يَقُولُواْ } كل منهم ، وقت تذكيرهم وتنبيههم رفقاً لهم ، وتلييناً لقلوبهم ، بالكلمة { ٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } الكلمات وألينُها ، وأتمُّها نفعاً ، وأقربُها للقبول ، لا بالتي هي أخشن وأغلظ لتكون مدخلاً للشيطان { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ } المضل المغوي { يَنزَغُ } أي : يُوقع القتنة بين المرشد والمسترشد ، ويهيجها ويثيرها إلى أن أدى الأمر إلى المشاجرة والمقاتلة ، وأنواع الخصومات المخلة للحكمة المقصودة من أمر النبوة والرسالة ، والكلمة الغليظة كثيراً ما يفضي إليها ، فيفوت الغرض الأصلي { بَيْنَهُمْ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ } في أصل جبلته وفطرته خُلق { لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً } [ الإسراء : 53 ] ظاهر العداوة ، ومستمر الفتنة ، بحيث لا يُردى دفع عداوته أصلاً . فلكم أيها الهادون الناصحون ألاَّ تغلطوا ، ولا تخشنوا في دعوة الناس إلى طريق الحق ، ولا تبالغوا أيضاً في إرشادهم وإهدائهم ؛ إذ ما عليكم إلاَّ تبليغ ما أُمرتم بتبليغه ، وليس في وسعكم وظاقتكم رشدهم وهدايتهم ألبتة ؛ إذ هو مبين على العلم باستعداداتهم وقابليتهم ، ولا علم لكم أيها الناصحون عليها ، بل { رَّبُّكُمْ } الذي ربَّاكم أيها الناس المجبولون على فطرة المعرفة والإيمان { أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ } هدايتَكم { يَرْحَمْكُمْ } على مقتضى جوده ، ويوفقكم على قبول الإيمان ، وحصول العرفان عانيةً منه وفضلاً { أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ } أي : يبقيكم ويغويكم في تيه الحرمان والخذلان ، خاسرين خائبين بمتابعة الشيطان . { وَ } بالجلمة : { مَآ أَرْسَلْنَاكَ } يا أكمل الرسل ، وأفضل البرايا ، مع أنك لولاك ما خلقت الأفلاك ؛ إذ كل من في العلم منوط بمرتبتك المحيطة الجامعة { عَلَيْهِمْ } أي : على الناس { وَكِيلاً } [ الإسراء : 54 ] أي : ليكون أمروهم موكولاً إليك ، بحيث إ ذا أردت هداية بعض ، وضلال آخرين ، فيقع مرادك بلا خلف ، بل إنما أرسلناك مبلغاً بشيراً ونذيراً ، وما عليك إلاَّ البلاغ ، وعلينا الإصلاح والفساد ؛ إذ نحن بكمال استغنائنا عن مطلق مظاهرنا ومصنوعاتنا ، مستقلون في تدبيرات أمور ملكنا وملكوتنا ، وشهادتنا وغيبنا ، وجبروتنا ولاهوتنا . { وَرَبُّكَ } يا أكمل الرسل { أَعْلَمُ بِمَنْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي : باستعدادات الملائكة السماويين والأرضيين ، وقابليات الثقلين السفليين { وَ } لعلمنا باستعدادات جميع عبادنا { لَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ ٱلنَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ } لسُنّة سنيَّة ، وخصلة حميدة ، مثل تفضيلنا إبراهيم باخلة ، وكمال الحلم ، وكثرة التأوه ، وموسى بالتكليم ، وعيسى بأنواع الإرهاصات والكرامات ، من الارتقاء نحو السماء والتكلم في غير أوانه ، ووجوده بلا أب ، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بشق القمر وبالمعراج ، وسليمان بالمُلك العظيم { وَ } من جملة تفضيلنا : { آتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } [ الإسراء : 55 ] مشتملاً على أنواع الحكمة ، وفصل الخطاب ، سيما على ألقاب خاتم الرسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وظهوره ونسخة جميع الأديان والكتب ، وكون أمته أشرف الأمم ، ودينه أكمل الأديان . { قُلِ } يا أكمل الرسل للمشركين الذين يعون آلهة غير الله ، ويعبدونهم كعباددته على سبيل التعجيز والتقريع : { ٱدْعُواْ } عند نزول البلاء ، وهجوم المحن والعناء ، شركاءكم { ٱلَّذِينَ زَعَمْتُم } آلهةً { مِّن دُونِهِ } أي : من دون الله حتى ينقذوكم من الشدة والبأس ، وإن بالَغْتُمْ في الدعاء والتوجه نحوهم ، الالتجاء إليهم { فَلاَ يَمْلِكُونَ } أي : لا يقدرون ولا يستطيعون وآلهتكم { كَشْفَ ٱلضُّرِّ } فيكف { عَنْكُمْ } بل عن أنفسهم { وَلاَ تَحْوِيلاً } [ الإسراء : 56 ] أي : دفعاً وترديداً منكم إلى غيركم . إذ { أُولَـٰئِكَ } الفقراء الضعفاء { ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ } إليهم ، وتدعونهم آلهة ، كالملائكة وعيسى وعزير - عليهما السلام . { يَبْتَغُونَ } ويطلبون من غاية افتقارهم واحتياجهم { إِلَىٰ رَبِّهِمُ } الذي أوجدهم وأظهرهم من كتم العدم { ٱلْوَسِيلَةَ } المقربة إليه من الأعمال الصالحة ، والأخلاق المرضية المقبولة عند الله ؛ ليظهر لهم { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } إليه ، وأقبل عنده { وَ } مع ذلك { يَرْجُونَ } في مناجاتهم وخلواتهم { رَحْمَتَهُ } على مقتضى لطفه وفضله { وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } على مقتضى قهره وعدله { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } [ الإسراء : 57 ] واجب الحذر لكل من دخل تحت حيطة التكليف ، سواء كان نبيّاً أو وليّاً . ثمَّ قال سبحانه : ِ { وَإِن مِّن قَرْيَةٍ } أي : ما من قريةٍ من القرى الهالكة { إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } بالخسف والكسف ، والزلزلة والطاعون وغير ذلك { أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً } كالقتل والنهب والأسر ، وأنواع البليات والآذيات والمصيبات { كَانَ ذٰلِك } الإهلاك والتعذيب { فِي ٱلْكِتَابِ } الذي هو عبارة عن حضرة علمنا ، ولوح قضائنا { مَسْطُوراً } [ الإسراء : 58 ] على التفصيل الذي وقع بلا مخالفةٍ أصلاً .