Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 59-66)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ } أي : ما صرفنا عن إرسال الآيات المقترحة عنك يا أكمل الرسل والإتيان بها { إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا } وبأمثالها { ٱلأَوَّلُونَ } أي : الأمم الماضون بعد إتيان ما اقترحوا عتواً وعناداً ، فاستأصلناهم بتكذيبهم ؛ إذ من سنتنا القديمة وعادتنا المستمرة استئصال المقترحين المكذبين على أنبيائنا بعد إتيانهم بمقترحاتهم ، فلو حصل مقترحات هؤلاء المقترحين أيضاً ليكذبوك ألبتة ، فلزم علينا حينئذٍ إهلاكهم واستئصالهم على مقتضى سنتنا المستمرة ، لكن مضى حكمنا ألا ننتقم من مكذبيك في النشأة الأولى ؛ لأن منهم من يؤمن ومنهم من يُولد مؤمناً ، لذلك ما جئنا بمقترحاتهم . { وَ } اذكر لهم إن كانوا شاكين مترددين فيما ذكرنا بعض قصص الأمم الماضية المشهودة في الآفاق ، وذكِّرهم كيف { آتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ } المقترحة حين اقترحوا على نبينا صالح عليه السلام بإخراجها من الحجر المعيِّن ، فأخرجها منه بإذن الله وقدرته ، حال كون أعينهم { مُبْصِرَةً } خروجها منه ، ومع ذلك { فَظَلَمُواْ بِهَا } أي : بالناقة بعدما أمرهم سبحانه بمحافظتها ورعايتها على لسان صالح ، فكذبوه قعقروها ، واستأصلناهم لأجلها ، وأمثالها من الأمم الهالكة بتكذيبهم بعد إتيان ما اقترحوا أكثر من أن يحصى . { وَ } بالجملة : { مَا نُرْسِلُ } ونأتي { بِٱلآيَاتِ } المقترحة { إِلاَّ تَخْوِيفاً } [ الإسراء : 59 ] من نزول العذاب المهلك المستأصِل على المقترحين . { وَ } اذكر للمؤمنين وقت { إِذْ قُلْنَا } موحياً { لَكَ } مسلياً عليك : لا تحزن من كثرة عدَدَ عودك وعُدَدهم ، ولا تخفْ من شوكتهم { إِنَّ رَبَّكَ } الذي اصطفاك من البرية للرسالة العامة قد { أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ } إحاطة الظل بأظلالها ، فهم مقهورون تحت قبضة قدرته يفعل بهم حسب إرادته ومشيئته ، فامضِ على ما أُمرت بلا خوفٍ وترددٍ فلك الاستيلاء والغلبة . { وَ } أيضاً { مَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ } حين نزولك ماء بدرٍ ، وأصبحت تقول مشيراً بإصبعك : " هَذَا مَصْرَعُ فُلاَنٍ ، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلاَن " فأخبر قريشُ بقولك وإشارتك إلى مصارعهم ، فاستهزءوا معك واستبعد بعض المؤمنين أيضاً { إِلاَّ فِتْنَةً } واختباراً { لِّلنَّاسِ } هل يؤمنون بك ويصدّقون قولك ، أم يكذبونك وينكرون بك . ثم لما وقع الأمر على الوجه الذي أُريت في منامك ، اطمأن المؤمنون وازدادوا يقيناً وإخلاصاً ، وجحد الكافرون وأزدادوا شقاقاً ونفاقاً ، ونسبوا أمرك هذا إلى السحر والكهانة الرجم بالغيب عناداً ومكابرةً . { وَ } أيضاً ما جعلنا { ٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ } المكروهة التي يلعنها كل من يذوقها ويطعمها ، وهي الزقوم المنبت على أدوية الجحيم ؛ لذلك لُعنت { فِي ٱلقُرْآنِ } حتى يحترز المؤمنون عن الأعمال المقربة إليها الموجبة لأكلها إلا قتنةً وابتلاءً للناس ، لذلك لما سمعت قريش شجرة الزقوم ، جعلوها منشأ الهزل والسخرية مع الرسول صى الله عليه وسلم حتى قال أبو جهل : إن محمداً يخوفنا عن نار تحرق الحجارة ، ويزعم أنها تنبت الشجرة ، وقد علمتم أن النار تحرق الشجر ، وما هي إلى قرية بلا مرية . ثم اعلم أن الأمور الدينية كلها تعبدي ، فلو ظهر لما وجه عقلي فيها ولو لم يظهر ، لزم الإطاعة والانقياد على سبيل التعبيد والتسليم من الصادق المصدوق ، مع أن نبت الشجر في النار ، مما لا يمتنع عقلاً أيضاً ؛ لأن وجود الحيوان في النار أبعد من وجود النبات فيها . وحكاية الدويبة التي يقال لها : السمندل ، هي تعيش في النار كالسمك في الماء متى خرجت منها ماتت ، واتخاذ الناس من شعرها منديلاً متى اتسخت ، طرحت على النار فأحرقت ، وأخرجت سالمة نظفية منها ، مشهورة معروفة ، لا شك في وقوعها . وأعجب من ذلك ابتلاع النعامة الجمرة والجذوة والحديدة المحماة المحمرة في النار ، ولا تضرها اصلاً { وَ } من قساوة قلوب أولئك الغواة ، وغلظ حجبهم { نُخَوِّفُهُمْ } بأنواع المخاوف الدنيوية والأخروية { فَمَا يَزِيدُهُمْ } تلك التخويفات الهائلة { إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً } [ الإسراء : 60 ] متجاوزاً عن الحد غاية التجاوز لشدة عمههم وعتوهم . { وَ } ليس طغيانهم وإصرارهم عليه إلا بتسويلات الشياطين وتغريراتهمه على مقتضى العداوة القديمة ، والخصومة المستمرة بين الشيطان وبني آدم . اذكر وقت { إِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ } بأجمعهم بعدما جاوءا بما جاءوا من الحجج والدلائل الدالة على عدم لياقة آدمة ب الخلافة والنيابة إلى أن أُفحموا وأُلزموا : { ٱسْجُدُواْ لأَدَمََ } وتذللوا عنده ، ولا تجادلوا في حقه إنا قد إخترناه لخلافتنا { فَسَجَدُواْ } سجود تواضع وتكريم امتثالاً للأمر الوجوبي ، بعدما ما تمادوا في إيراد الحجج استحياء منه سبحانه ، ورهبة من سطوة قهره بالإعراض عن أمره وما خالف أمر الله منهم { إَلاَّ إِبْلِيسَ } فإنه أصر على الإنكار ، ولم يرغب إلى امتثال المأمور بل زاد على الجدال والنزاع ؛ حيث { قَالَ } مستعبداً مستنكراً { أَأَسْجُدُ } وأتذلل من نجابة أصلي وشرف عنصري { لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } [ الإسراء : 61 ] أي : لمن أنشأته وصوَّرته من طين متى مذموم لا شرف له ولا نجابة ، وما هو إلا تفضيل المفضول وتكريم المرذول . ثم لما طرده الحق من ساحة عز الحضور ، وأخرجه من بين الملائكة ، ولعنه لعنة مؤبدة إلى أن آيس عن القبول مطلقاً { قَالَ } إبليس معترضاً على الله مسيئاً الأدب معه سبحانه ، مستفهماً على سبيل الاستبعدا والاستنكار : { أَرَأَيْتَكَ } أي : أخبرني { هَـٰذَا } القالب المستحقر المسترذل { ٱلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ } وأمرتني بسجوده وطردتني لأجله طرداً مخلداً ، بناءً على أنه يعبدك ويعرفك ، ويوحدك حق توحيدك ، ويقدسك حق تقديسك وتنزيهك ، ويتفطن على حق قدرك وقدر حقيتك ، والله وبحق عظمتك وجلالك { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ } وأبقيتني فيما بينهم { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } المعدة لتنفيذ الأعمال وعرضها على جنابك { لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ } أي : أضلنهم وأغوينهم بالإغواء والإغواء إلى حيث أمحونَّ أسماءهم عن دفتر المؤمنين ، فكيف عن العارفين المكاشفين المشاهدين ، لأن تركيبهم وبنيتهم هذا مقتضى أنواع الفسادات وأصناف العصيان والضلالاات ، ولي فيهم مداخل كثيرة أوسوسهم وأغريهم إلى حيث أضلهم عن منهج الرشاد ومسلك السداد { إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 62 ] منهم فإنهم ثابتون على ما جُبلوا لأجله لا أقدر على إغوائهم ؛ لكونهم مؤيدين من عندك ، موفقين بتوفيقك . ثم لما سمع سبحانه منه ما سمع { قَالَ } سبحانه ساخطاً عليه مغاضباً طارداً له أشد طرد وتبعيد : { ٱذْهَبْ } يا ملعون فقد أمهلناك فيما بينهم إلى قيام الساعة ، فذلك أن تفعل بهم ما نفعل { فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } بعدما جبلناهم على فطرة التوحيد والمعرفة ، ومع ذلك أرسلنا عليهم الرسل المنبهين المرشدين لهم طريق الرشاد ، وأنزلنا عليهم الكتب المبينة لهم أحوال المبدأ والمعاد ، ومع ذلك يتركون متابعة الكتب والرسل ، ويتبعون لك ويقتفون أثرك ، فيهم حينئذٍ خارجون عن زمرة عبادنا الصالحين ، لا قون بك ، مستحقون بما استحققت أنت وأعوانك من الجزاء { فَإِنَّ جَهَنَّمَ } الطرد والحرمان وأنواع المذلة والخذلان حينئذٍ { جَزَآؤُكُمْ } تابعاً ومتبوعاً ضالاً ومضلاً { جَزَاءً مَّوْفُوراً } [ الإسراء : 63 ] أي : مستوفياً وافراً وافياً ، لا مزيد عليها مؤيداً مخلداً . { وَ } بعدما سمعت جزاءك وجزاء من تبعك منهم { ٱسْتَفْزِزْ } أيها المطرود الملعون ؛ ي : حرِّك ، وزلزل عن موضع ثبوتهم وقرارهم على جادة التوحيد { مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ } وتمكنت على إضلالهم عن طريق الحق { بِصَوْتِكَ } أي : بمجرد أن تصوت عليهم ، فينحرفوا من غاية ضعفهم في الإيمان { وَ } إن لم تقدر ، ولم تظفر عليهم بمجرد صوت لرسوخهم وتمكنهم في الجملة { أَجْلِبْ } أي : سِح وصوّت { عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ } أي : بركبان أعوانك وجنودك { وَرَجِلِكَ } أي : بمشاتهم ورجالهم ، وبالجملة : تمم ، وأوفر جميع حيلك ومكرك مهما أمكنك حتى تستفزهم وتضعفهم من مقر الإيمان والعرفان . { وَ } إن شئت اتحادهم وإخاءهم { شَارِكْهُمْ فِي } جميع { ٱلأَمْوَالِ } أي : علّمهم السرقةَ الغضب وقطعَ الطريق والربا والحيلَ المشهورة المعروفة في هذا الزمن ، بالحيل الشرعية التي وضعها المتفقهة المتفسقة ، خذلهم الله من تلقاء نفوسهم الخبيثة الدنية { وَ } شاركهم أيضاً في { ٱلأَوْلادِ } أي : علمهم طريق الإباحةة والاستباحة وتحليل المحرمات المؤدية ، إلى تخليط الأنساب وامتزاج المياه كما ابتدعها أهل التلبيس والتدليس من المتشيخة الذين هم من جنودك ، أهلكهم الله وقهر عليهم ، { وَ } إن شئت { عِدْهُمْ } بالمواعيد الكاذبة التي مالت إليها نفوسهم واقضتت شهواتهم من ترك التكاليف والأعمال الشاقة من الفرائض والسنن والآداب والنوافل المقربة نحو الحق ، والإنكار على النشأة الآخرة ، وما يترتب عليها من الأمور المسئولة عنها ، المؤاخذة عليه والجنة والنار { وَ } معلوم أن { مَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ } المغوي المضل { إِلاَّ غُرُوراً } [ الإسراء : 64 ] أي : تزييناً وتحسيناً للباطل بصورة الحق وادعاء الحقية والحقيقة لهم ؛ ليغريهم بها ، ويضلهم عن طريق الحق . وبالجملة : افعل بهم أيها الحريص على إضلالهم ما شئت من المكر والحيل والخداع ، وهم إن كانوا من زمرة أرباب الاطمئنان الإيقان ، المقررين في مقر التوحيد والعرفان ، الموفقين عليه من عندنا ، لا يتبعونك ولا يقبلون منك وساوسك وهذياناتك ، وليس لك عليهم سلطان أصلاً . وإن كانوا من المطبوعين المختومين من عندنا ، المجبولين على الضلال والغواية ، فيتبعوك ويقتفوا أثرك ، فلحقهم ما لحق بك ، وهم من جنودك وأتباعك ، وبالجملة : { مَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [ النور : 40 ] . ثم قال سبحانه : { إِنَّ } خُلَّص { عِبَادِي } أضافهم سبحانه إلى نفسه ؛ لكمال إخلاصهم واختصاصهم { لَيْسَ لَكَ } أيها المضل المغوي { عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } أي : حجة واستيلاء تغلبهم بها بعدما اتخذوني خليلاً وأخذوني كفيلاً { وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً } [ الإسراء : 65 ] حفيظاً يتوكلون عليه مخلصين ، ويستعيذون نحوه من إغرائك وإغوائك أيها لطاغي ملتجئين . وكيف لا يحفظم سبحانه ، ولا يعذبكم أيها المؤمنون المخلصون عما يؤذيكم ويقصد مقتكم : { رَّبُّكُمُ ٱلَّذِي يُزْجِي } يُسري ويُجري { لَكُمُ ٱلْفُلْكَ } الجاريةَ { فِي ٱلْبَحْرِ } بتيسيره وتسهيله عنايةً منه إيااكم { لِتَبْتَغُواْ } وتطلبوا { مِن فَضْلِهِ } ما يوسع لكم طريق المعاش من أنواع التجارات والأرباح ، واستخراج الجواهر منها ، وغير ذلك { إِنَّهُ } سبحانه من كمال جوده وسعة رحمته { كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } [ الإسراء : 66 ] مشفقاً عطوفاً ، سيما بعد اتكالكم عليه سبحانه على وجه الأرض .