Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 67-75)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَ } مما ارتكز في نفوسهم ورسخ في قلوبكم ، أنكم { إِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ } بأن عرض لمركبكم ما يوجب كسرها وغرقها ، وصرتم فيها حيارى سكارى ، بحيث { ضَلَّ } وغاب عنكم { مَن تَدْعُونَ } وتستغيثون منه لو كنتم في البر ، وما معكم من الأمتعة والبضاعات { إِلاَّ } استعانتكم واستغاثتكم { إِيَّاهُ } سبحانه ، فإنه بذاته لا يغيب عنكم ، ولا يفارقكم ؛ إذ هو أقرب إليكم من حبل وريدكم { فَلَمَّا نَجَّاكُمْ } وخلّصكم سبحانه من تلك المضائق الهائلة { إِلَى ٱلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ } عنه سبحانه ، وصرتم متعلقين بما معكم من الأمتة والأعراض { وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ } في أصل فطرته خُلق { كَفُوراً } [ الإسراء : 67 ] لأنعم الله { هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً } [ المعارج : 19 - 20 ] نحو الحق { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ } كفوراً { مَنُوعاً } [ المعارج : 21 ] معرضاً عنه منكراًً له . { أَ } أعرضتم عنه سبحانه بعد إنجائه وصلاخه إياكم { فَأَمِنْتُمْ } عنه قهره وسخطه حين وصلتم إلى البر ، مع أنه سبحانه قادراً على إهلاككم من البر أيضاً ، أما تخافون { أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ ٱلْبَرِّ } أي : يقلب عليك الأرض كما خسفها على قارون { أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ } ريحاً شديداً { حَاصِباً } ترميكم وترجمكم بحجارة كما رجمنا قوم لوط { ثُمَّ } بعدما أخذناكم في البر بأمثال هذه البليات { لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً } [ الإسراء : 68 ] حفيظاَ يحفظكم عن أمثال هذه المصيبات ، أو يشفع لكم بتخفيفها وكشفها . { أَمْ أَمِنْتُمْ } أيها القاصرون عن إدراك قدر الله ، وكما قدرته { أَن يُعِيدَكُمْ } ويلجئكم إلى الرجوع { فِيهِ } أي : في البحر { تَارَةً أُخْرَىٰ } بأسباب ووسائ لا تخطر ببالكم { فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ } في الكرة الأخرى لأخذكم وانتقامكم { قَاصِفاً } كاسراً { مِّنَ ٱلرِّيحِ } لتكسر مركبكم { فَيُغْرِقَكُم } فيه { بِمَا كَفَرْتُمْ } في اللكرة الأولى { ثُمَّ } بعد إرجاعنا إلى البحر ، وإغراقنا فيه على نحو إنعامنا وإنجائنا ن قبل { لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً } [ الإسراء : 69 ] أي : لا تجدوا ناصراً ومعيناً لكم ، فيظهر علينا بأخذكم وانتقامكم ، ويطالب منا قصاص ما فعلنا بكم ؛ إذ لا رادّ لفعلنا ، ولا معقب لحكمنا ، نفعل ما نشاء ونحكم ما نريد . ثم قال سبحانه على سبيل الإنعام والامتنان : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا } وفضلنا { بَنِي ءَادَمَ } بأنواع الكرامة والتفضيل على سائر المخلوقات من حسن الصورة والسيرة واعتدال المزاج ، واستواء القامة ، والعقل المفاض المتشعب من العقل الكل الذي هو حضرة العلم الحضوري الإلهي ، وكذا بالقدرة والإدارة ، وسائر الصفات المترتبة على الصفات الذاتية الإلهية يشعر بخلافته ونيابته { وَ } مع ذلك { حَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ } بركوب النجائب من الخيل والبغال والبعير وغير ذلك ، { وَ } في { ٱلْبَحْرِ } بركوب الجواري والسفن { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ } أي : الأطايب التي يكسبونها بأيديهم على مقتضى إقدارنا إياهم ، وإعدادنا أسباب مكاسبهم معهم ، وأبحنا لهم ما تستلذ به نفوسهم وتشتهي قلوبهم على وفق ما نطق به رسلهم وكتبهم . و { وَ } بالجملة { فَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 70 ] والقليل المستثنى هم الملائكة المقربون المهيمون المستغرقون بمطالعة جمال الله وجلاله ، وإن كان الوالهون الهائمون من الإنسان في ولاء الله ومحبته ، المكاشفون بسر الخلافة والنيابة التي أخبر بها الحق ، الواصلون إلى مرتبة الفناء بالموت الأرادي ، أفضل منهم أيضاً ، وأرفع رتبة ومكانة . وإنما كرمناهم وفضلناهم بما فضلناهم ؛ لحكمةٍ ومصلحة تقتضيها ذاتنا ، وهي أنَّ نريد أن نطالع ذاتنا المتصفة لجميع أوصاف الكمال ونعوت الجمال والجلال في مظهر تام كامل لمراتبنا وخلافتنا ، وكرّمناه لأجل هذه الحكمة العزيزة ، فمن لم يبلغ منهم إلى هذه المرتبة العلية والدرجة السنية بسلوكه الذي أرشدناه وعلمناه بإرسال الرسل وإنزال الكتب فه ونازلً كل التنازل عن درجة الاعتبار ، ساقطُ عن رتبة ذوي الألباب والأبصار . بل أولئك البعداء الضالون عن منهج الرشاد كالأنعام بلا شعور إلى ما جبلوا لأجله ، بل أضل سبيلاً منها وأسوأ حالاً ومآلاً ، { مَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [ النور : 40 ] . اذكر يا أكمل الرسل للمكرمين المفضلين على سائر المخلوقات : { يَوْمَ نَدْعُواْ } نحشر { كُلَّ أُنَاسٍ } منهم ؛ لنسألهم ، ونطلب عنهم ما اكتسبوا ، وحصَّلوا من المعارف والحقائق والأعمال المقربة إلينا باقتدائهم { بِإِمَامِهِمْ } الذي نرسل إليهم ، وننزل ع ليه من الرسل والكتب ؛ لإرشادهم وإهدائهم مع أنا كتبنا منهم خيرهم وشرهم اللذَّين جاء كل منهم بهما في صحيفةٍ ، ونعطيهم اليوم صحائف أعمالهم { فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ } منهم { بِيَمِينِهِ } فهو دليل خيرية أعماله وطيب أحواله { فَأُوْلَـٰئِكَ } المقبولون { يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ } فرحين بما فيها مسرورين ، فيجازون على مقتضى ما كُتب بل أضعافها وآلافها ، عنايةً منَّا وفضلاً { وَ } هم { لاَ يُظْلَمُونَ } ولا ينقصون من أجور أعمالهم { فَتِيلاً } [ الإسراء : 71 ] مقدار ما في ظهر النواة من الخط الأسود أو بين الأصابع من الوسخ المفتول . { وَ } من أوتي كتابه بشماله فهو علامة شرّية أعماله ، ورخامة حاله ومآله ، فأولئك الأشقياء المردودون ينظرون إلى كتابهم ، فيجدون ما فيها من أنواع المعاصي والآثام ، فيغمضون عيونهم عن قراءتها آيسين محزونين ، فيجازون على مقتضى ما كتب مثلاً بمثل عدلاً منه سبحانه ؛ إذ { مَن كَانَ فِي هَـٰذِهِ } النشأة { أَعْمَىٰ } عن مطالعة آثار الأوصاف الذاتية الإلهية ، وملاحظة عجائب صنعه وغرائب حكمته وبدائع تجلياته وتطوراته لحظة فلحظة { فَهُوَ فِي } النشأة { ٱلآخِرَةِ } أيضاً { أَعْمَىٰ } إذ النشأة الأولى مزرعات الخيرات ، والأخرى وقت حصاده ، فمن لم يزرع فيها ، فهو وقت الح صاد خاسر مغبون أعمى عن وجدان الخيرات { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } [ الإسراء : 72 ] لفوات أسباب التدارك والتلافي عنه ، فيبقى متحيراً مدهوشاً قلقاً حائراً ضالاً مستوحشاً . ثم قال سبحانه مخاطباً لحيبيه على وجه التنبيه والتأديب بعدما ظهر عليه مخايل الميل والركون عن الحق بمخادعة أهل الكفر والنفاق : { وَإِن كَادُواْ } أي : أنهم ؛ أي : الكفرة قاربوا { لَيَفْتِنُونَكَ } يا أكمل الرسل ، ويوقعونك في الفتنة الشديدة يالميل والصرف { عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } وأنزلنا في كتباك من الأوامر والنواهي والأحكام المتعلقة بتهذيب الظاهر والباطن ، ويرغبونك { لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ } أي : غير ما أوحينا إليك { وَإِذاً } أي : حين افترائك وانتسابك إلينا غير ما أوحينا إليك من الأمور التي تشتهيها نفوسهم وترتضيها قلوبهم { لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } [ الإسراء : 73 ] وآمنوا بك بواسطة انتسابك هذا . نزلت في ثقيف حين قالوا : لا نؤمن بك حتى تخصنا بخصالٍ نفتخر ونباهي على سائر العرب ، لا نضن ولا نُحشر ولا نُجبي في صلواتنا ، وكّل رِباً لنا فهو لنا ، وكل رِباً علينا فهو موضوع عنَّا ، وأن تمتعنا باللات سنة ، وأن تحرم وادينا كما حرمت مكة ، فإن قالت العرب : لم فعلت معهم هذا ؟ فقل : إن الله أمرني وأوصاني بها ، وانتظر أن تنزل آية فيها ، فإن فعلتَ بنا هذه نؤمن بك ونصدقك ونتخذك خليلاً ، فتردد صلى الله عليه وسلم وقرب أن يميل ويركن لشدة ميله إلى إيمانهم واتِّباعهم ، فجاء جبريل عليه السلام فمنعه عن هذا الرأي . لذلك قال سبحانه : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ } أي : ولولا إثباتنا وتثبيتنا إياك يا أكمل الرسل في مقر صدقك وتمكينك { لَقَدْ كِدتَّ } وقربت { تَرْكَنُ } وتميل { إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً } [ الإسراء : 74 ] أي : صوت في صدد الميل والركون إلى إنجاز ما أرداوا . { إِذاً } أي : حين إنجاحكم سُؤْلهم ومأمولهم { لأذَقْنَاكَ } في نشأتك هذه { ضِعْفَ ٱلْحَيَاةِ } أي : ضعف عذاب من جاء بمثله في النشأة الأولى { وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ } أي : ضعف عذاب من جاء بمثله في النشأة الأخرى ؛ يعني : نعذبك في الدنيا والآخرة بعضف عذاب من جاء به من سائر الناس ؛ لأن جزاء الأبرار لو أتوا بالمعاصي والآثام ضعف جزاء الأشراء ، بل أكثر ؛ إذ لا يتوقع منهم الانصراف عن منهج الرشاد أصلاً ، ولو انصرفوا أُخذوا بضعف من يتوقع منهم الانحراف والانصراف { ثُمَّ } بعد أخذنا إياك انتقامنا منك { لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً } [ الإسراء : 75 ] أي : لا تجد ظهيراً لك نصيراً يظهر علينا بنصرتك ، ويطالبنا بإنقاذك عن عذابنا .