Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 76-86)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ } أي : وإن قاربوا ؛ ليحركونك ويضطرونك بالنقل والجلاء { مِنَ ٱلأَرْضِ } التي استقررتَ وتمكنتَ فيها ؛ يعني : مكة { لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا } معللين بأن الأنبياء والرسل إنما بعثوا في أرض الشام وأرض المقدسة ، خصوصاً أجدادك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولادهم وأسباطهم . صلوات الله عليهم كلهم . بُعثوا فيها ، فلك أن تخرج إليها حتى نؤمن لك ونصدق برسالتك ، وما ذلك إلا حليةُ وخديعةُ معك ؛ ليخرجوك من مكة حتى تبقى رئاستهم معهم { وَ } لا تغتم يا أكمل الرسل ولا تحزن بالخروج منها ، فإنك لو خرجت منها { إِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ } زماناً { قَلِيلاً } [ الإسراء : 76 ] وقد جرى الأم على مقتضى وعد الله سبحانه ، فإنهم بعدما هاجر صلى الله عليه وسلم ببدرٍ بعد مدةٍ يسيرةٍ . وليس إخراجك يا أكمل الرسل عن مكة ، وهلاكهم بعد خروجك منها ببدع منا مستحدث ، بل من سنتنا القديمة وعادتنا المستمرة إهلاكُ الأمم الذين أَخرجوا نبيهم المبعوث إليهم من بين أظهرهم عتواً وعناداً بل صار ذلك : { سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا } المبعوثين إلى الأمم الما ضية ؛ أ ي : من سنتنا الموضوعة فيهم بالنسبة إلى أقوامهم ، فكذلك حالك مع هؤلاء المعاندين المكذبين { وَ } بعدما استمر منا هذه السُّنة السَّنية { لاَ تَجِدُ } أنت وغيرك أيضاً { لِسُنَّتِنَا } المنبعثة من كمال حكمتنا { تَحْوِيلاً } [ الإسراء : 77 ] أي : تغييراً وتبديلاً ؛ إذ لنا فيها حِكمُ ومصالحُ مخفيةُ استأثرنا بها لا اطلاع لك عليها ، وإنما عليك التوجه والتقرب في جميع أوقاتك وحالاتك سيما في الأوقات المكتوبة . { أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ } وأدم التوجه { لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } أي : حين زوالها من الاستواء { إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ } أي : ظلمته بغروبها إلى حيث لم يبقَ من بقية آثار ضوئها شيء أصلاً ، فيسع في المحدود المذكور : الظهر والعصر والمغرب والعشاء على ما عينه الشرع لكل منها وقتاً معيناً { وَ } طوِّل { قُرْآنَ } صلاة { ٱلْفَجْرِ } وأطِلِ القيام فيها مع القراءة { إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ } الذي هو وقت الانكشاف والانجلاء الصوري ، المنبئ عن الانكشاف المعنوي والانجلاء الحقيقي ، الذي هو عبارةُ عن إشراق نور الوجود واضمحلال الأظلال والعكوس المشعرة بالكثرة والغيرية . لذلك { كَانَ } قراءة القرآن المبين لسرائر الوحدة الذاتية ، وكيفية سريانها على صفائح المكونات فيه { مَشْهُوداً } [ الإسراء : 78 ] لخواص عباد الله من الملائكة والثقلين ، بل لجميع الحيوانات من الوحوش والطيور ؛ إذ الكل في وقت الفجر متوجهون نحو الحق ، مسبحون مهللون حالاً ومقالاً . { وَ } إن شئت ازيداد القرب والثواب اسهر واستيقظ قطعةً { مِنَ ٱلْلَّيْلِ } واترك النوم فيها طلباً لمرضاة الله { فَتَهَجَّدْ بِهِ } أي : صلِّ فيها صلاة التهجد يتطويل القراءة ؛ لتكون { نَافِلَةً } زائدة { لَّكَ } على فرائضك مزيدةً لقربك وكرامتك { عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ } ويقيمك { رَبُّكَ } بسعيك واجتهادك في تهجدك { مَقَاماً مَّحْمُوداً } [ الإسراء : 79 ] أي : مقاماً من مقامات القرب ودرجات الوصال مسمىً بالمقام المحمود ؛ لأن كل من وصل إليه يُحمد له ؛ إذ لا مقام أرفع منه وأعلى منه وأعلى رتبة ومكانة . وبعدما وصلت أيها السالك الناسك إليها لم يبقَ لك درجة الاستكمال والاسترشاد ، بل صرت كاملاً رشيداً وإن اُلهمت وأذنت من عنده سبحانه صرتَ مرشداً مكملاً لأهل النقصان ، شفيعاً لهم عند الله بإذنه ؛ لتنقذَهم من لوازم الإمكان المفضي إلى دركات النيران ، وتوصلَهم إلى فضاء الجنان بتوفيق الله إياك وإياهم . { وَ } بعد وصولك لسيعك وجهدك وأنواع تهجدك ، وإقامتك في خلال الليالي بتوفيق الله ، وتيسيره على ما وصلت من المقامات العلية والمراتب السنية { قُل } مناجياً إلى ربك ملتجئاً نحوه طالبَ التمكن والتقرر في المقام الذي وصلت إليه بتوفيقه وتأييده : { رَّبِّ } يا من رباني بأنواع اللطف والكرم { أَدْخِلْنِي } بفضلك وجودك { مُدْخَلَ صِدْقٍ } ومنزلَ قرارٍ ، وهو مقر التوحيد المسقط لأنواع الإضافات والكثرات ، وخلدني فيه لا تذبذبٍ وتلوينٍ { وَأَخْرِجْنِي } عن مقتضيات أنانيتي وهويتي إلى فضاء الفناء الموصل إلى شرف البقاء واللقاء { مُخْرَجَ صِدْقٍ } بلا تلعثمٍ ونزلزلٍ { وَٱجْعَل لِّي } حين معارضة أنانيتي معي واستيلاء أمَّارتي عليَّ { مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً } أي : برهاناً قاطعاً وكشفاً صريحاً وشهوداً تاماً ؛ ليكون { نَّصِيراً } [ الإسراء : 80 ] لمن ينصرني على أعدائي ، ويخلصني من أيديهم حين هجومهم عليَّ . { وَقُلْاً } بعدما تحققت وتمكنتَ في مقر الكشف والشهود : { جَآءَ ٱلْحَقُّ } الصريح الثابت ، ولاح الشمس الذات { وَزَهَقَ } أي : تلاشي واضمحل { ٱلْبَاطِلُ } أي : العكوس والأظلال الهالكة الباقية على عدماتها الأصلية { إِنَّ } العدم { ٱلْبَاطِلَ } الزائل الزاهق الظاهر على صورة الحق { كَانَ زَهُوق } [ الإسراء : 81 ] في نفسه ، مضمحلاً في ذاته ، باقياً علكى عدمه ، وإن أُوهم وخُيِّل أنها موجوداتُ متأصلاتُ في الوجود ، إلا أنها ما شُمَّ في رائحةٍ منه سوى أن أشعة التجليات الوجودية الإلهية لاحت عليها ، فيتراءى ما يتراءى ، فظن المحجوب بأنها موجود ، { مَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [ النور : 40 ] . ومتى تحققت وتمكنت بمقامك المحمود وفزتَ ، فزتَ من الحوض المورود { وَنُنَزِّلُ } عليك تعظيماً لشأنك وتأييداً لأمرك { مِنَ ٱلْقُرْآنِ } المبيِّن الموضِّح لمراتبك العليّة من التوحيد { مَا هُوَ شِفَآءٌ } لمرض القلوب بسموم الإمكان في مضيق الحدثان ، ومحبس الملوين من الموفقين بشرف متابعتك { وَرَحْمَةٌ } نازلةُ { لِّلْمُؤْمِنِينَ } بكل المصدقين بدينك وكتابك ؛ ليسترشدوا ويستكشفوا بما فيه من الرموز والإشارات قدر قابلياتهم واستعداداتهم كي يتفطنوا أو يتنبهوا بما فيه من السرائر المودعة المتعلقة بسلوك مسالك التوحيد { وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ } الخارجين عن مقتضى حدوده وأحكامه استنكاراً له واستكباراً { إَلاَّ خَسَاراً } [ الإسراء : 82 ] ووباراً لإخسار أعظم منه ، وهو إبطالهم الحكمة التي جبلهم الحق لأجلها ، ألا وهي المعرفة والتوحيد ، وما ينتمي إلأيها من الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية المقبولة عند الله . ثم أخبر سبحانه عن تمايل الإنسان وتلوينه وعدم رسوخه ، وتمكنه بحالٍ من الأحوال وعدم فطنته وذكائه بذاته ، وكيفية افتقاره واختياره واحتياجه إلى الحق ، وعدم تأمله في أمر مبدئه ومعاده ، وكيفية ارتباطه بالحق في النشأة الأولى والأخرى فقال : { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا } وأعطينا من كمال فضلنا وجودنا { عَلَى ٱلإنْسَانِ } المجبولين على الكفران والنسيان ووسَّعنا له طرق معاشه { أَعْرَضَ } عنا ، وانصرف عن شكرنا وعن الالتجاء والارتجاء بنا عناداً واستكباراً { وَ } صار من إفراط عتوّه إلى حيث { نَأَى } وتباعد { بِجَانِبِهِ } أي : طوى كشحه ولوى عطفه عنا ، كأنه مستغنٍ في ذاته ، مستقلُ في أمره ، بحيث لا يخطر بباله احتياجه إلينا ، ولهذا تجبر واستعلى ، وبالغ في الجدال والمراء إلى أن قال : { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [ النازعات : 24 ] . { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ } وأزعجه البلاء ، وهجم عليه الشدة والعناء ، وترادفت عليه الوقائع والمصيبات { كَانَ } من قلبة تصبره وضعف يقينه وتدبره { يَئُوساً } [ الإسراء : 83 ] عن رَوح الله ، شديد القنوط عن سعة لطفه ورحمته ، والطرفان ؛ أي : إفراط الاستغناء والاستكبار ، وتفريط اليأس والقنوط ، كلامهما مذمومان محظوران عقلاً وشرعاً . { قُلْ } يا أكمل الرسل كلاماً ناشئاً عن محض الحكمة منبئاً عن الاستقامة والعدالة مبنياً عليهما : { كُلٌّ } من المحق والمبطل ، والضال والمهدي { يَعْمَلُ } ويعتدي { عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ } وطريقته التي تشاكل وتشابه حاله ووقته إياها ؛ إذ كل ميسر موقن من عندنا لما خلق له ، سواءً كان من رشدٍ أو غي ، أو ضلالةٍ أو هدايةٍ ، ولا علم لكم يا بني آدم على حقيقة الأمر والحال { فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ } بعلمه الحضوري { بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ } وأقوم { سَبِيلاً } [ الإسراء : 84 ] وأوضح منهجاً وأسدّ طريقاً ، فيوفقه على جهته ووجهته . ثم قال سبحانه تأييداً لحبيبه صلى الله عليه وسلم وتعليماً : { وَيَسْأَلُونَكَ } يا أكمل الرسل ؛ فوق النصارى واليهود وجميع أهل الزيغ والضلال { عَنِ ٱلرُّوحِ } المتعلق بالأجساد المحيي لها ومحركها بالإدارة والاختيار ، وإذا انفصل وافترق عنها مات ، ولم يتحرك وانقطع الشعور والإدراك عنها ؛ أي : يسألونك عن لِميَّه وكيفية تعلقه وارتباطه بالأجسام ، وكيفية انفصاله عنها { قُلِ ٱلرُّوحُ } نفسه ، وكيفية تعلقه بالأجسام وكيفية انفصاله عنها كلها صادرةٌ ناشئةُ { مِنْ أَمْرِ رَبِّي } أي : مما حصل بأمره الدالّ على تكوين المكونات ، وهو قول : " كن " الدال على سرعة نفوذ قضائه . وأما كمية المقضي وكيفية حصوله وانفصالهن فأمرٌ استأثر الله به في غيبه ، ولم يُطلع أحداً عليه لذلك قا ل : { وَمَآ أُوتِيتُم } يا بني آدم { مِّنَ ٱلْعِلْمِ } المتعلق بالورح { إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ] وهو أنيته وتحققه دون لميته وحقيقته ؛ لأن اطلاع الإنسان على الأشياء إنما هو بقدر قابليته واستعداده ، وليس في وسعه وطاقته أن يعلم حقيقة الخردلة وكيفية حصولها وتكونها ، فكيف حقيقة الروح ، وكيفية تعلقها في البدن . غاية ما في الباب أن المكاشفين من أرباب الأذواق ينكشفون في البدن ، ويتفطنون منها أن ظهور الأشياء وحياتها ومنبع نشأتها ونمائها إنما هي تلك السراية ، هذا نهاية ما يمكن التكلم والتفوه عنه ، وأما الاطلاع على كنهها ، فأمرٌ لا يسعه مقدرة البشر . ثم قال سبحانه : { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } أي : والله إن شئنا وأردنا إذاهب القرآن المرشد لقاطبة الأنام ، لحككناه من المصاحف ومحوناه من الصدور والخواطر { ثُمَّ } بعد إذهابنا ومحونا { لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً } [ الإسراء : 86 ] أي : لا تجد ظهيراً مُعيناً لك يطالبنا بمجيئه .