Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 18, Ayat: 21-27)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَ } كما أنمناهم نوماً طويلاً شبيهاً بالموت ، ورحمناهم بتقلبٍ من جانبٍ إلى جانبٍ وحفظناهم من حر الشمس وأنواع المؤذيات ، وبعثناهم من نومهم بعث الموتى للحشر ؛ ليزدادوا بصيرة وثقة على الله { كَذٰلِكَ أَعْثَرْنَا } وأطعلنا { عَلَيْهِمْ } وعلى من شاهد حالهم ، وشهد قصتهم من المؤمنين { لِيَعْلَمُوۤاْ } ويتيقنوا { أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ } القادر المقتدر بالقدرة التامة الكاملة لكل ما أراد وشاء { حَقٌّ } ثابتُ لائقُ له أن يُنجزه بلا خلفه { وَ } يتيقنوا خصوصاً { أَنَّ ٱلسَّاعَةَ } الموعودة التي وعدها الحق بألسنة جميع أنبيائه ورسله آتيهُ { لاَ رَيْبَ فِيهَا } وارتفع نزاع الناس فيها ، ببعث هؤلاء بعد ثلاثمائة وتسع سنين . اذكر يا أكمل الرسل وقت { إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ } المتعلق بدينهم في المحشر والمعاد الجسماني ؛ إذ القادر على حفظهم ورعايتهم في المدة المذكورة ، وبعثِهم بعدها قادرُ على إحياء عموم الموتى من قبورهم وإعادة الروح إلى أجسامهم ؛ إذ أمثال هذا سهلُ يسيرُ في جنب قدرة الله وإرادته ، وبعدما بعثناهم من مراقدهم وأطلعنا الناس عليهم ، فمضوا وتكلموا معهم ، وحكوا ما حكوا ، وأخبر القوم بمدة رقودهم ، واستودعوا مع القوم ورجعوا إلى المراقد فماتوا وانقرضوا ، فاختلف الناس في أمرهم ، فقال المسلمون : هم منا لأنا موحدون ، وقال الكافرون : بل هم منا لكونهم أولاد الكفار . وبالجلمة : { فَقَالُواْ ٱبْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً } قال المسلمون : نحن نبني عليهم مسجداً ، وقال الكافكرون نحن نبني عليهم كنسيةً ، وكلا الفريقين ليسوا عالمين بكفرهم وإيامنهم ، بل { رَّبُّهُمْ } الذي رثاهم بأنواع التربية ورحمهم بأنواع الرحمة { أَعْلَمُ بِهِمْ } وبحالهم فأمرُهم موكولُ إلى الله مفوض إليه ، ثم لما تمادى النزاع بينهم وتطاول جدالهم { قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ } بالقدرة الحجة ، وهم الموحدون المسلمون { لَنَتَّخِذَنَّ } ونبنين { عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً } [ الكهف : 21 ] نتوجه فيه لله ، ونتبرك بهم ونجعله محل الحاجات وقضاء المناجاة ، فاتخذوه وجعلوه مرجعاً يرجع إليه الأقاصي والأداني . ثم لما اختلف الخائضون في قصتهم في عددهم ، ذكر سبحانه أقوالهم أولاً ، ثم بين ما هو أولى وأحق فقال : { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ } أي : مصيرهم أربعة { كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ } اي : مصيرهم ستةً { كَلْبُهُمْ } كلا القولين ، الأول قول اليهود ، والثاني قول النصارى صدر عنهم { رَجْماً } ورمياً { بِٱلْغَيْبِ } إذ لا مستند لهم من التواريخ وقول الرسل { وَيَقُولُونَ } هم { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ } أي : مصيِّرهم ثمايةً { كَلْبُهُمْ } والواو وإن كان مقحماً ، أفاد توكيد لصوق الصفة بالموصوف وشدة اتصاله به ، ليدل على صدقه ومطابقته ، ومثله في القرآن كثير ، منه قوله تعالى : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] وغير ذلك ، وهي مثل الواو في قولهم : جاءني زيدُ ، ومعه ثوبُ . هذا قول المؤمنين أخذوا من رسول الله ، وهو من جبريل ، وجبرائيل من الله سبحانه ، فإن شكوا فيه أيضاً ونسبوه إلى الرّمي والتخمين { قُلاً } لهم يا أكمل الرسل : { رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم } إذ لا يعزب عن علمه شيءُ من أحوالهم من أول أمرهم إلى أخره ؛ لأن علمه بمعلوماته حضوريُ ، لا يغيب عنه أصلاً وهم { مَّا يَعْلَمُهُمْ } من أحوالهم { إِلاَّ قَلِيلٌ } بالأخبار والتواريخ ، وأكثرها غير مطابق للواقع ، ولما كان قولهم وعلمهم راجعاً إلى الرجم والرمي بلا مستند { فَلاَ تُمَارِ } ولا تجادل يا أكمل الرسل { فِيهِمْ } أي : في حق الفتية { إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً } أي : جدالاً خفيفاً مقتصراً على ما أوحينا إليك ، لا متعمقاً غليظاً بأن تُجهلهم وتُسفههم ، وتضحك من قولهم ، وتنسبه إلى الخرافة الخرق . { وَ } أيضاً { لاَ تَسْتَفْتِ } ولا تسأل { فِيهِمْ } أي : في حق الفتية وأمرهم { مِّنْهُمْ } أي : من أهل الكتاب { أَحَداً } [ الكهف : 22 ] يعني : لا ستفتِ أحداً منهم عن قصتهم وشأنهم بعدما ظهر عليك أمرهم بالوحي ؛ لأن استفتاءك بعد الوحي ، إما سؤالُ تعنتٍ وامتحانٍ ، فهو لا يليق بمرتبة الرسالة والنبوة ، بعدي عن مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم اللازمة لمرتبة النبوة ، وإما سؤال استعلام واسترشاد ، فهم قاصرون عاجزون عنهها ، مع أنه لا معنى للسؤال بعد الوحي . { وَ } لما أمره اليهود لقريش أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤال تعنتٍ وامتحانٍ عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف ، فسألوا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ائتُوني غَداً أُخْبِركُمْ عَنْهَا " . قاله بلا استنثاءٍ وتعليقِ بمشيئتةِ ؛ أي : لم يقل : إن شاء الله ، فانسد عليه باب الوةحي بضعة عشر يوماً ، فشق عليه صلى الله عليه وسلم الأمر ، وكذَّبته قريش وتحزّن حزناً شديداًن فنهاه سبحانته نهياً مؤكداً ، وأدّبه تأديباً بليغاً ؛ لئلا يترك الاستثناء في الأمور أصلاً ، فقال : { لاَ تَقُولَنَّ } يا أكمل الرسل ألبتة { لِشَاْىءٍ } عزمتَ عليه وأردتَ أن تفعله { إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ } الشيء { غَداً } [ الكهف : 23 ] على سبيل البيت والمبالغة . { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } أي : إلا أن تذكرَ وتجيءَ بالاستثناء بعد عزمك بقولك ، إن شاء الله ، { وَٱذْكُر رَّبَّكَ } يا أكمل الرسل { إِذَا نَسِيتَ } ذكر الاستثناء والتعليق على مشيئة الله في خلال الأمور حين القصد والعزيمة والقول بالإصدار ، بعدما تذكرتَ نسيانَك تلافياً لما فُوّتَ وتداركاً لما تركتَ ، ولو بعد حينٍ بل سنةٍ ، وقل : إن شاء الله متذكراً الأمر الذي تركت التعليق فيه قضاءً لِما فات . { وَقُلْ } بعدما كشفنا عليك جواب سؤالهم هذا شكراً له ، وابتهاجاً عليه ، وطلباً للمزيد منه سبحانه : { عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي } وأرجوا من فضله وجوده أن يرشدني ويدلني { لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً } [ الكهف : 24 ] أي : لأمرٍ هو أقربُ دلالةٍ من أمر أصحاب الكهف وقصتهم إلى الهداية والرشاد ، وأوضحُ إيصالاً إلى مسلك الصواب والسداد ؛ تأديباً لنبوتي وتشييداً لرسالتي ، وهو قد هداه وأرشده بأعظمَ من ذلك : كالإخبار عن بعض الغيوب ، وقصص الأنبياء المتباعد عهدهم وزمانهم ، وأمارات الساعة وأشراطها ، وإنزال القرآن المشتمل على الرطب واليابس الحادثة في العالمين ، الجارية في النشأتين . { وَ } ما اختلف أهل الكتاب في عدد الفتية ، اختلفوا أيضاً في مدة لبثهم في الغار راقدين نائمين قال بعضهم : { لَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ } بالسنة الشمسية على ما هو المشهور { وَ } بعضهم { ٱزْدَادُواْ } عليها { تِسْعاً } [ الكهف : 25 ] من تلك السنة أيضاً ، وإن كان المراد بالسنة فيه الأولى شمسية والثانية قمرية ، كان كلا القولين واحداً ؛ لأن التفاوت بينهما في كل مائة عام سنة ثلاث سنين ، فيكون الزايدة في ثلاثمائة : تسع سنين قمرية . { قُلِ } ي أكمل الرسل بعدما لم يوجد شيءُ يوثَق به ويُعتمد عليه في تعيين مدة لبثهم في الغار سوى التخمين والحسبان { ٱللَّهُ } المطلعُ لجميع السرئر والخفايات { أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } أي : بمدة لبثهم في كهفهم راقدين ؛ إذ { لَهُ } سبحانه لا لغيره من مظاهره وأظلاله { غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي : الاطلاع على المغيبات الواقعة في العلويات من غاية انشكافه وانجلائه له أن يقال : { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } كما يجري في مبصراتنا ومسموعاتنا ؛ لاستغنائه وتنزهه سبحانه عن الالتفات والإصغاء ، بل المغيباتُ والمحسوساتُ كلُّها في حضوره وحضرة علمه على السواء بلا تفاوتٍ أصلاً . ثم قال سبحاه : { مَا لَهُم } أي : لأهل السماوات والأرض { مِّن دُونِهِ } أي : دون الله { مِن وَلِيٍّ } يوليهم ويلي أمورهم ؛ إذ هو مستقلُ بالوجود والتصرف في ملكه وملكوته بلا مظاهرة أحدٍ ومعاونته { وَلاَ يُشْرِكُ } بمقتضى تعززه وكبريائه وسطوته واستيلائه { فِي حُكْمِهِ } السابق في قضائه إجمالاً ، واللاحق في قَدْره تفصيلاً { أَحَداً } [ الكهف : 26 ] من مظاهره ومصنوعاته ، بل له الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة والتخليق والترزيق ، وجميعُ ما حدث من الحوادث الجارية في الآفاق كلُّها مستندةُ إليه سبحانه وتعالى أولاً وبالذات ، بلا تخلل الوسائل والوسائط العادية الناشئة من الأوهام والخيالات الباطلة بالنسبة إلى أولي الأحلام السخيفة ، وذوي الحجب الكثيفة النافية لرؤية الحق انجلائه في المظاهر كلها . وأما أرباب الوصول والشهود ، وهم الذين ارتقوا حجبَ الخيالات وسُدلَ الأوهام والعادات ، فلا يَرون في الوجود سواه ، ولا إله عندهم إلا هو ، لذلك لم سُنسدوا شيئاً من الحوادث الكائنة بمقتضى التجليات والشئون الإلهية إلا له سبحانه ؛ إذ ليس وراء الله عندهم مرمىً ومنتهىً . { وَ } إذ كان مفاتيحُ المغيبات ومقاليدُ العلوم والإدراكات ، وكذا جميعُ ما في العالم من المحسوسات والمشاهدات كلُّها مستندةُ إليه سبحانه ، ناشئةُ من عنده { ٱتْلُ } يا أكمل الرسل على من تبعك من المؤمين { مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ } على الوجه الذي أُنزل إليك بلا تبديلٍ وتحريفٍ ؛ إذ { لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } ولا متصرف في كلامه سواه ، ولا تسمع قول المشركين : { ٱئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـٰذَآ أَوْ بَدِّلْهُ } [ يونس : 15 ] إذ لا يسع لأحدٍ أن يبدله ويحرفه { وَ } إن همتَ إلى تبديله وتحريفه من تلقاء نفسك { لَن تَجِدَ مِن دُونِهِ } سبحانه { مُلْتَحَداً } [ الكهف : 27 ] ملجاً تلتجئ إليه نزول عذاب الله ، وحلول أخذه وانتقامه على تبديلك وتغييرك كلامه . ثم لما طلب صناديد قريش من روسل الله صلى الله عليه وسلم إبعاد فقراء المؤمنين وطردهم عن مجلسه ، مثل أبن آم مكتوم وأبي ذر وفقراء أصحابه ؛ لرثاثة حالهم وشمول الفاقة عليهم حتى يصاحبوه صلى الله عليه وسلم ويجالسوا معهم ، فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على إنجاج ما أرادوا واقترحوا ، وأمر بالفقراء ألا يحضروا معهم في مجلسه ، ردّ الله سبحانه على رسوله رداً بليغاً ، ونهاه عنه نهياً شديداً .