Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 28-34)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فقال سبحانه مؤدباً له مقرعاً : { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ } أي : إن التمس قرشيُ من إبعاد الفقراء ، وبالغوا في طردهم وذبّهم عن صحيتك ، لا تُجبهم ولا تُنجح مطلوبهم ، بل اصبر ووطّن نفسك المائلة إلى غنائهم وصفاء زيّهم ولباسهم { مَعَ } الفقراء { ٱلَّذِينَ } شأنهم أنهم { يَدْعُونَ } ويعيدون { رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ } أي : طرفي النهار وما بينهما { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } ويتوجهون نحوه مخلصين بلا ميلٍ منهم إلى الهوى ومزخرفات الدنيا مع غاية فقرهم وفاقتهم { وَلاَ تَعْدُ } أي : لا تملِ ولا تُصرف { عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } لرثاثة حالهم وخلقِ ثيابهم إلى الأغنياء وزّيهم البهيّ حال كونك { تُرِيدُ } وتقصد { زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } بالالتفات إليهم ، والميل إلى مصاحبتهم ومجالستهم ، والركون إلى جاههم وثروتهم { وَلاَ تُطِعْ } ولا تنفق معهم في طرد الفقراء بمجرد ميلك إيمانك أولئك الأغنياء البعداء عن روح الله ورحمته ، ولا تلتفت التفاتَ متحننٍ متشوقٍ إلى { مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ } وختمنا عليه بالإعراض { عَن ذِكْرِنَا } ختماً لا يرتفع عنه أصلاً { وَ } لذا صار من العتو والعناد إلى أن { ٱتَّبَعَ هَوَاهُ } واتخذه إلهاً ، واجتنب عن مولاه وبنذه وراءة { وَكَانَ أَمْرُهُ } في الاتباع والاتخاذ { فُرُطاً } [ الكهف : 28 ] ميلاً وتقدماً نحو الباطل ، وإعراضاً عن الحق ونبذاً له وراءه ظهرياً . { وَقُلِ } على سبيل المثال الإرشاد والتبليغ بلا مراعاةٍ ومداهنةٍ { ٱلْحَقُّ } الصريحُ الصحيحُ الثابتُ ما نزل ونشأ { مِن رَّبِّكُمْ } الذي أنشأكم وأظهركم من كتم العدم وأصلح حالَكم بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، وبلّغْ ما أوحي إليك بلا تبديلٍ وتغييرٍ ؛ إذ ما عليك إلا البلاغ والتبليغ { فَمَن شَآءَ } منهم الفوز والفلاح { فَلْيُؤْمِن } بالله وكتب ورسله على مقتضى ما بلغَّتَ { وَمَن شَآءَ } منهم الوبالَ والنكالَ في الداري { فَلْيَكْفُرْ } فاعلم أنه سبحانه لا يبالي بكفرهم وإيانهم ؛ إذ هو منزهُ عن إيمان عباده وكفرهم . ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والتنبيه : { إِنَّا } من مقام علدنا وقهرنا من أعرض عنا من عبادنا وانصرف عن مقتضى أوامرنا ونواهينا { أَعْتَدْنَا } وهيأنا سبيما { لِلظَّالِمِينَ } الخارجين عن مقتضيات أحكامنا { نَاراً } ذاتتَ التهابٍ واشتعالٍ إلى حيث { أَحَاطَ } أي : احتوى واشتمل { بِهِمْ سُرَادِقُهَا } أي : لهبُها التي هي كالفسطاط في الإحاطة والشمول ، والفسطاطُ : المتخذُ من الشعر { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ } من شدة العطش ونهاية حرقة الكبد والزفرة { يُغَاثُواْ } ويُجابوا { بِمَآءٍ } في اللون { كَٱلْمُهْلِ } وهو الحديدُ المذابُ ، وفي الحرارة إلى حيث { يَشْوِي ٱلْوجُوهَ } ويحرقها وقتَ تقريبه إلى الفم للشرب . وبالجملة : { بِئْسَ ٱلشَّرَابُ } شرابُ المهل { وَسَآءَتْ } جهنم وأوديتها المملوءة بنيران الحرمان والخذلان { مُرْتَفَقاً } [ الكهف : 29 ] منزلاً ومسكناً ، تسكنون فيها أبداً مخلداً . ثم اتبع سبحانه الوعيد بالوعد على مقتضى سنته المستمرة ، فقال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بوحدة ذاتنا وكمال أوصافنا وأسمائنا ، وبإرسالنا الرسل ، وإنزالنا الكتب المبينة الموضحة لأحكامنا الصادر منا على مقتضى الأزمان والأدوار { وَ } مع الإيمان والإذعان { عَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } المأمورةِ لهم في الكتب وألسنة الرسل ، واجتنبوا عما نهيناهم عنها ، فجزاؤهم علينا نجازيهم ونضاعف لهم بأضعاف ما يستحقون بأعمالهم وإخلاصهم فيها { إِنَّا } من مقام فضلنا وجودنا { لاَ نُضِيعُ } ونهمل { أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } [ الكهف : 30 ] وأخلص نيةً ، وأتم قصداً وأكلم عزيمةً . { أُوْلَـٰئِكَ } السعداء المحسنون المخلصون { لَهُمْ } في النشأة الأخرى { جَنَّاتُ عَدْنٍ } أي : متنزهاتُ إقامةٍ وخلودٍ من مراتب العلم والعين والحق ، ومع ذلك { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَارُ } أي : أنهار المعارف والحقائق ، متجددةً بتجددات التجليات الإلهية والنّفَسات الرحمانية المترشحة من رشاشات بحر الذات الأزلية الأبدية ، ومع ذلك { يُحَلَّوْنَ } ويزينون { فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ } وخلاخل متخذةٍ { مِن ذَهَبٍ } جزاء ما هذَّبوا أخلاقهم وجوارحه بمقتضى الأوامر الإلهية في النشأة الأولى { وَيَلْبَسُونَ } فيها { ثِيَاباً خُضْراً } مصنوعةً { مِّن سُنْدُسٍ } وهو ما رقَّ من الديباج { وَإِسْتَبْرَقٍ } هو ما غلظ منه جزاء ما يتصفون في النشأة الأولى بزي التقوى ولباس الصلاح . ومن كمال تنعمهم وترفههم يكونون { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى ٱلأَرَآئِكِ } والسررِ ، متمكنين عليها جزاء ما حملوا من المتاعب والمشاق في مواظبة الطاعات وملازمة العبادات ، وبالجملة : { نِعْمَ ٱلثَّوَابُ } والجزاء جزاءُ أهل الجنة وثوابهم { وَحَسُنَتْ } المتنزهات الثلاثة { مُرْتَفَقاً } [ الكهف : 31 ] يرتفقون وينتفعون فيها أهل الكشف والشهود ، بما لا عينُ رأت ولا أذنُ سمعت ولا خطرَ على قلب بشر . ثم أمر سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم بضرب المثل لتوضيح حال المؤمن والكافر ، ومآل أمرهما فقال : { وَٱضْرِبْ لهُمْ } يا أكمل الرسل { مَّثَلاً } بيَّناً موضِّحاً كان { رَّجُلَيْنِ } من بني إسرائيل هما أخوان ؛ أحدهما مؤمنُ موحدُ ، والآخر كافرُ مشرك مات أبوهما ، وورثا منه أموالاً عظاماً فاقتسما ، فصرف المؤمن ماله في سبيل الله وأنفق للفقراء واليتامى وأبناء السبيل ، واشترى الكافر مكاسبَ ومزارع وكثر ماله إلى أن { جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا } أي : للكافر ابتلاءً له واختباراً { جَنَّتَيْنِ } بستانين { مِنْ أَعْنَابٍ } وكرومٍ { وَحَفَفْنَاهُمَا } أي : أ ؛ طنا كلاً منهما { بِنَخْلٍ } لتزيد حسناً وبهاءً { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا } أي : بين الجنتين { زَرْعاً } [ الكهف : 32 ] مزرعاً ومحرثاً للحبوب والأقوات من الحنظة والشعير وغيرهما . { كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ } كملتا إلى أن { آتَتْ } وأثمرت كل منهما { أُكُلَهَا } ثمرتها كاملةً وافرةً في كل سنةٍ { وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً } أي : لم تنقص ثمرتها وحاصلهما من كل منهما شيئاً من النقصان كما هو المعهود في سائر البساتين ، فإن ثمرها يتوفر في عامٍ وينقص في أخرى { وَ } مع ذلك { فَجَّرْنَا } وأجرينا { خِلالَهُمَا } أي : أوساط الجنتين { نَهَراً } [ الكهف : 33 ] سقيهما . { وَ } مع تينك الجنتين المذكورتين { كَانَ لَهُ ثَمَرٌ } أي : اموالُ عظامُ وأمتعةُ كثيرةُ من أنواع الأجناس والنقود والجواهر والعبيد وغير ذلك ، { فَقَالَ } الآخر الكافر يوماً على سبيل البطر والمباهاة { لِصَاحِبِهِ } أي : للأخ المؤمن { وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } ويخاطبه بعض الأموال والزخارف عليه ، ويشنّع عليه ، ويعيره ضمناً ، ويقرّعه تقريعاً خفياً ، إلى أن بطراً : { أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً } وبالأموال تقتضي الأماني ، وتنال اللذات والشهوات { وَأَعَزُّ نَفَراً } [ الكهف : 34 ] أبناءً وعشائر وأحشاماً وخدمةً يظاهرن ويعانون عليّ لدى الحاجة ، ويجالسون ويصاحبون معي في الحضر والسفر .