Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 18, Ayat: 35-45)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَ } من شدة بطره وخيلانه : { دَخَلَ } يوماً { جَنَّتَهُ } التي ذكر وصفها { وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } بعرضها على عذاب الله وأنواع عقابه بكفره بالله ، وبطره بحطام الدنيا ، وإعجابه على نفسه اتكالاً على ثروته وجاهه وكثرة أعوانه وأنصاره { قَالَ } من طول أمله وحرصه وشدة غروره وغفلته : { مَآ أَظُنُّ } بل ما أشك وأوهم { أَن تَبِيدَ } أي : تنهدم وتنعدم { هَـٰذِهِ } الجنة { أَبَداً } [ الكهف : 35 ] بل هي على هذا القرار والنضارة دائماً . { وَ } أيضاً { مَآ أَظُنُّ } وأعتقد { ٱلسَّاعَةَ } الموعودة التي أخبر بها أصحاب الدعاوي من الأنبياء والرسل { قَائِمَةً } آتيةٌ البتة بلا تردد وشك حتى تنهدم وتنعدم هذه بانعدام العالم وانقراضها { وَلَئِن رُّدِدتُّ } هبني أن فرضتُ وقدّرتُ قيام الساعة وانقضاء النشأة الدنياوية على ما زعموا وبُعثتُ من قبري على الوجه الذي ادعو وَرُددتُ { إِلَىٰ رَبِّي } للحساب والجزاء وعرض الأعمال وتنقيدها { لأَجِدَنَّ } ألبتة جنةً في العقبى { خَيْراً مِّنْهَا } أي : من هذه الديناوية فآخذُها { مُنْقَلَباً } [ الكهف : 36 ] أي : مرجعاً ومنزلاً كما أخذتُ هذه في الدنيا ، وإنما يقول ذلك على سبيل الاستهزاء والاستخفاف ، يعني : إني حقيق حريُ بتلك المرتبة في الدنيا والآخرة ، إن فُرض وجودها ، فأنا حري بذلك فيها أيضاً . ثم لما تمادى في المباهاة والمفاخرة ، وتطاول كلامه في الغفلة والغرور والإنكار على الله وكمال قدرته وقوته ، وسرعة نفوذ قضائه وحكمه المبرم متى تعلق إرادته { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ } المؤمن { وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } على سبيل العظة والتذكير وأنواع التسفيه والتعبير : { أَكَفَرْتَ } وأنكرتَ أيها المفسد الطاغي { بِٱلَّذِي خَلَقَكَ } أي : قدّر أولاً مادتك { مِن تُرَابٍ } خسيسٍ مزدولٍ إلى أن صرتَ بكثرة التبدلات والتغييرات نطفةٌ مهينةٌ { ثُمَّ } قدّرها ثانياً { مِن نُّطْفَةٍ } دنيئةٍ يستحقرها بل يستخبثها جميع الطباع { ثُمَّ سَوَّاكَ } منها وعد لك شخصاً سوياً سالماً وربَّاك بأنواع اللطف والكرم إلى أن صرتَ { رَجُلاً } [ الكهف : 37 ] رشيداً عاقلاً بالغاً كافلاً للأمور والوقائع ، كافياً لإحداث الغرائب والبدائع ، وافياً في جميع المضارّ والمنافع . ثم كلفك بالإيمان والمعرفة والإتيان بالأعمال الصالحة والإذعان بالنشأة الأخرى ، وما يترتب عليها من العرض والحساب والسؤال والجزاء وجميع المتعقدات الأخروية ، فاستنكرتَ واستكبرت إلى أن كفرتَ عناداً ومكابرةً ، فستعرف حالك فيها أيها الطاغي الباغي المستحقُ لأنواع العذاب والعقاب { لَّٰكِنَّاْ } أي : لكن أنا لا أكفر وأنكر مثلك ربي الذي أظهرني من كتم العدم ولم ألك شيئاً مذكوراً ، وقدّر مادتي من التراب الأدنى والأرذل من المني الأخس الأنزل ، ثم عدَّلني وسواني رجلاً رشيداً كاملاً في العقل الرشد ؛ لأعرف ذاته فأعبده ، وأشكر نعمه ، وأؤدي حقوق كرمه ، وأتوجه نحوه ، وأتضرع إليه ، وأصدق رسله وكتبه وجميع ما فيها من الأمور والنواهي والمعتقدات التي وجب الاعتقاد بها من الأمور المتعلقة بالنشأة الأولى والأخرى . فكيف أنكره وأكفر بنعمه وأنسى حقوق لطفه وكرمه ؛ إذ { هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي } وربُّ جميع من في حيطة الوجود من الأظلال والعكوس ، وهو المستقل في الوجود والألوهية والربوبية ، وهو المتوحد المتفرد بالقيومية والديمومية { وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي } الذي ربَّاني بأنواع اللطف والكرم { أَحَداً } [ الكهف : 38 ] سواه ؛ إذ لا شيء في الوجود إلا هو . { وَلَوْلاۤ } أي : هلا وقت { إِذْ دَخَلْتَ } أيها المدبر العاقل { جَنَّتَكَ } التي افتخرت بها { قُلْتَ } بدل قولك : { مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً } [ الكهف : 35 ] { مَا شَآءَ ٱللَّهُ } أي : ما شاء وأراد دوامها تتأبد وما لم يشأ لم تتأبد ؛ إذ { لاَ قُوَّةَ } ولا قدرة للتأبيد والتخريب { إِلاَّ بِٱللَّهِ } أصالةً وحقيقةً ، وأنت أيها الكافر المسرف المنكر { إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً } [ الكهف : 39 ] فعيرتني وعرضت عليّ أولادَك وزخارفَك بطراً وبوحاً ، مع أني أكثر منك إيماناً وعرفاناً وثقةً على الله واتكالاً . { فعسَىٰ رَبِّي } وأرجو من كمال فضله وجوده { أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً } أي : أزريد حسناً وبهاءً وأكثرَ بركةً ودخلاً { مِّن جَنَّتِكَ } التي تتفوق وتتفضل بها ليّ ؛ إذ هو القادر على كل ما أراد وشاء { وَيُرْسِلَ } بغتةً { عَلَيْهَا } أي : على جنتك { حُسْبَاناً } أي : صواعقَ نازلةً ليلاً { مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } فحرَّقتُها وخرَّبتُها واستأصلتها { فَتُصْبِحَ } أنت وترى { صَعِيداً } تراباً { زَلَقاً } [ الكهف : 40 ] ملساء لا تثبت فيها قدمُ ولا تنبت فيها نباتاً . { أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا } الجاري في خلالها { غَوْراً } غائراً عميقاً ؛ بحيث لا يمكن سقيها منه أصلاً لغاية غوره وعمقه { فَلَن تَسْتَطِيعَ } وتقدر { لَهُ طَلَباً } [ الكهف : 41 ] بالكفر والحيل وأنواع التدابير . فأعطى سبحانه المؤمن ما أمِله وأراده تفضلاً عليه وامتناناً له : { وَ } أرسل على بستان الكافر صواعقَ نازلةً من السماء كثيرة إلى حيث { أُحِيطَ بِثَمَرِهِ } وعمّت الإهلاك والاستئصال جميع ما فيها من الثمار ، فلم يبقَ الانتفاع بها أصلاً ، وذهب ماؤها وبهاؤها واضحملت نضارتها وصفاؤها { فَأَصْبَحَ } الكافر { يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ } ظهراً لبطن تلهفاً وتأسفاً { عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا } أي : في تعميرها وإنشائها من الأموال والعظام { وَهِيَ } أي : لجنة { خَاوِيَةٌ } ساقطةُ { عَلَىٰ عُرُوشِهَا } أي : عروشها على الأرض والكروم عليها محرقةُ جميعها { وَيَقُولُ } الكافر حينئذ بعدما أفاق عن سكر الغرور والغفلة ، وتفطن على منشأ الصدمة والصولة الإلهية نادماً متحسراً : { يٰلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً } [ الكهف : 42 ] تعنتاً واستكباراً حتى لا يلحق عليّ ما لحقني من الوبال والنكال . { وَلَمْ تَكُن لَّهُ } حينئذ { فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ } على مقتضى مباهاته ومفاخرته بالأعوان والأنصار من بأس الله وأخذِه بل لا ناصرَ له { مِن دُونِ ٱللَّهِ } أي : استنصر منه ، واستغفر عما صدر عنه من الجراءة والجرائم فقد نصرَه وعفا عنه وإن عظمت زلته { وَمَا كَانَ } أيضاً بنفسه على مقتضى استبداده وثروته { مُنْتَصِراً } [ الكهف : 43 ] مخلّصاً مُنْجِياً نفسه عن امثال عن أمثال هذا النكال . بل : { هُنَالِكَ } وفي تلك الحالة وأمثال تلك الواقعة { ٱلْوَلاَيَةُ } أي : النصر والاستيلاء ، والغلبة والاستعلاء ، والعظمة والكبرياء ، والتعزز والاستغناء { لِلَّهِ ٱلْحَقِّ } الثابت القيوم المطلق ، الحقيق بالحقية والقيومية ، الجدير بالبسط والديمومية ، ولذلك { هُوَ } سبحانه بذاته وبمقتضى ألوهييته وربوبيته { خَيْرٌ ثَوَاباً } في النشأة الأخرى لأوليائه ، وأفضلُ عطاءً لأحبائه وأُمنائه { وَخَيْرٌ عُقْباً } [ الكهف : 44 ] لانتقام أعدائه انتصاراً لأوليائه . { وَٱضْرِبْ لَهُم } أي : اذكر يا أكمل الرسل للمائلين إلى الدنيا ومزخرفاتها ومستلذاتها الفانية الغير قارة ، المستتبعة لأنواع الآثام والعصيان ، المستلزمة لغضب الله وسخطه ومثّل لهم { مَّثَلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } وانقضائها وفنائها سريعاً { كَمَآءٍ } أي : مثله مثل ماء { أَنْزَلْنَاهُ مِنَ } جانب { ٱلسَّمَاءِ } إظهاراً لكمال قدرتنا وعجائب صنعتنا وبدائع حكمتنا { فَٱخْتَلَطَ بِهِ } أي : تكاثف وغلظ بسببه { نَبَاتُ ٱلأَرْضِ } وصار في كمال الطراوة والنضارة والحسن والبهاء إلى حيث يعجب منها أبصار أولي الألباب والاعتبار ، ثم يبس من حر الشمس وبرد الهواء { فَأَصْبَحَ هَشِيماً } مهشوماً متفرق الأوراق متفتتَ الأجزاء إلى حيث { تَذْرُوهُ } أي : تثيره وتطيره { ٱلرِّياحُ } كيف يشاء { وَكَانَ ٱللَّهُ } القادر المقتدر بالقدرة الكاملة التامة { عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ } من قدوراته ومراداته { مُّقْتَدِراً } [ الكهف : 43 ] كاملاً ؛ بحيث لا تنتهي قدرته لدى المراد ، بل له التصرف فيه على ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله .