Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 18, Ayat: 46-53)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ومتى سمعتَ وعلمتَ حال حياة الدنيا ومآل أمرها وعاقبتها ، وانكشفتَ بعدم ثباتها وقرارها فمعظم ما يتفرع عليها : { ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ } إذ هما { زِينَةُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } الفانية عارضان عليها ، ومتى لم يكن للمعروض دوامُ وبقاءُ ، فللعارض بالطريق الأولى { وَٱلْبَاقِيَاتُ } التي تبقى معك في أولادك وأخراك { ٱلصَّالِحَاتُ } المقربةُ إلى الله المقبولةُ عنده ، المترتبةُ عليها النجاةُ من العذاب والنيلُ إلى الفوز بالفلاح { خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً } أي : أجراً وجزاءٌ حسناً من اللذات الروحانية المودعة لأرباب القبول { وَخَيْرٌ أَمَلاً } [ الكهف : 46 ] أي : عاقبةًً ومآلاً ؛ إذ يُنال بها المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات المودعة لأرباب العناية وأصحاب القلوب من الراجين المؤملين شرف لقاء الله والفوز بمطالعة وجهه الكريم . { وَ } أذكر يا أكمل الرسل للناسين عهودَ الله ومواثيقَه { يَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ } وتحركها بالقدرة الكاملة والسطوة الهائلة ، ونفتت أجزاءها ، وتحلل تراكيبها ، ونشتتها إلى أن صارت دكّاً { وَتَرَى } أيها الرائي { ٱلأَرْضَ } المملوءة بالجبال الرواسي الحاجبة عما وراءها { بَارِزَةً } ظاهرةً ملساءَ مسوى لا ارتفاعَ لبعض أجزائها على بعضٍ ، مظهرةً لما فيها من الأجساد المدفونة { وَ } بعد ظهورهم منها ، وبروز الأجداث والأجساد عليها { حَشَرْنَاهُمْ } وجمعناهم بأجمعهم حفاةً عراةً إلى الموقف والموعد المعدّ للعرض والجزاء { فَلَمْ نُغَادِرْ } ولم نترك { مِنْهُمْ أَحَداً } [ الكهف : 47 ] لا نسوقه إلى المحشر . { وَ } بعدما جمعوا واجتمعوا في المحشر جميعاً { عُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ } يا أكمل الرسل عرضَ العسكر على السلطان الصوري { صَفَّاً } صافين مصفَّفين على الاستواء ؛ بحيث لا يحجب أحدٌ أحداً ، بل كل واحد في مرأى منه سبحانه بلا سترةٍ وحجابٍ ، ثم يقال لهم من قِبل الحق على سبيل الاستيلاء والسطوة ، وإظهار الهيبة والسلطنة القاهرة الغالبة : { لَّقَدْ جِئْتُمُونَا } اليوم حفاةً عراةً { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } كذلك ؛ أي : في بدء وجودكم وظهوركم { بَلْ } كنتم { زَعَمْتُمْ } وظننتم فيما مضى من شدة بطركم وغفلتكم { أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً } [ الكهف : 48 ] أي : لن نقدر على أنجاز ما وعدناكم بألسنة رسلنا من البعث والحشر والعرض والجزاء ، بل كذَّبتم الرسلَ وأنكرتم الوعدَ والموعودَ جميعاً ، فالآن ظهر الحق الذي كنتم تمترون فيه . { وَ } بعدما عُرضوا صافين على الوجه المذكور { وُضِعَ ٱلْكِتَابُ } المشتمل على تفاصيل أعمالهم وجميع أحوالهم وأطوارهم ، من بدء فطرتهم إلى انقراضهم من النشأة الاولى والمعدَّة لكسب الزاد للنشأة الأخرى بين يدي الله على رءوس الملأ { فَتَرَى } أيها الرائي { ٱلْمُجْرِمِينَ } حينئذ { مُشْفِقِينَ } خائفين مرعوبين { مِمَّا فِيهِ } أي : في الكتاب قبل القراءة عليهم { وَ } بعدما قُرئ عليهم ، وسمعوا جميعَ ما صدر عنهم كائنةً مكتوبةً فيه على التفصيل بلا فوت شيءٍ { وَيَقُولُونَ } متحسرين متمنين الموت ، مناجين في نفوسهم ، منادين : { يٰوَيْلَتَنَا } وهلكتنا أدركينا فهذا وقت حلولك ونزولك { مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ } العجيب الشأن الجامع لجميع فضائحنا وقبائحنا ؛ بحيث { لاَ يُغَادِرُ } ولا يترك فضيحة { صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } فصَّلها وعدَّدها بلا فوتِ خصلةٍ منها . روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : الصغيرة : التبسم ، والكبيرة : القهقهة . { وَ } بالجملة : { وَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ } من الخير والشر والذميمة والحميدة { حَاضِراً } ثابتاً مكتوباً بلا نقصانٍ منها ولا زيادةٍ عليها ، وكيف لا يكون كذلك ؛ إذ { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ } يا أكمل الرسل { أَحَداً } [ الكهف : 49 ] من عباده لا بالزيادة ولا بالنقصان ولو قدر نقير . ثم لما كان منشأ جميع الشرور والغرور ، وأنواع الفتن والغفلات ، وأصناف الشكوك والكفر والضلالات إبليسَ . عليه اللعنة . كرر سبحانه قصة استكباره واستنكاره مراراً تذكيراً للمتعظين وتنبيهاً على الغافلين المغرورين ؛ ليكونوا على ذُكْرٍ منه . بضمٍ فسكون ، أي : تذكُّرٍ وتفكرٍ . من غوائله وتسويلاته ؛ ليتمكن لهم الحذرُ عن وساوس أعوانه وأنصاره التي هي جنود الأوهام والخيالات الباطلة والأماني الكاذبة الناشئة من صولة الأمَارة المستولية على القوى الروحانية . فقال : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ } أي : اذكر لهم وقت قولنا للملائكة المعترضين لنا على اصطفائنا آدم للخلافة والنيابة بعد إفحامنا ، والزامنا إياهم بما ألزمناهم { ٱسْجُدُواْ } أي : تواضعوا وتذللوا على وجه الخضوع والانكسار { لأَدَمََ } النائبِ المستخلف عنا بعدما ظهر عنكم ، وعليكم فضلُه وشرفُه واستحقاقُه لأمر الخلافة { فَسَجَدُوۤاْ } بعدما سمعوا متذليين امتثالاً للأمر الوجوبي { إِلاَّ إِبْلِيسَ } منهم أبى ، ولم يسجد له معللاً بأنواع العلل والجدالات الباطلة الناشئة من خباثة فطرته على ماسمعت غير مرةٍ . وإنما امتننع ؛ لأنه { كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ } في أصل خِلقته ، فلحق بالملائكة لحكمةٍ ومصلحةٍ { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } على مقتضى خِلقته الأصلية { أَفَتَتَّخِذُونَهُ } أيها المغرورون بتغريره ، والمأملون إلى تلبيسه وتزويره بعدما صدرتْ عنه هذه العداوة الظاهرة { وَذُرِّيَّتَهُ } المختلطة معكم المرتكزة في نفوسكم ، وقواكم اللاتي هي أعدى أعدائكم { أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي } بحيث نفوضون أموركم إليها ؛ ليوالوها لكم { وَهُمْ } أصلهم وفرعهم { لَكُمْ عَدُوٌّ } قديمُ مستمرُ { بِئْسَ } الشيطان وذريته ، وولايتهما { لِلظَّالِمِينَ } الخارجين عن مقتضى أوامرنا ونواهينا { بَدَلاً } [ الكهف : 50 ] عنَّا وعن ولايتنا إياهم . وعن يحيى بن معاذ رضي الله عنه : لا يكون من أولياء الله ، ولا يبلغ مقام الولاية مَنْ نَظَرَ إلى شيءٍ دونه واعتمد على سواه ، ولم يميز بين معاديه ومواليه ، ولم يعلم حال إقباله من حال إدباره . انتهى . فكيف تتخذون أيها الحمقى المسرفون إبليسَ وذريتَه أولياءَ من دوني مع أني { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ } وأحضرتهم إبليسَ وجنودَه { خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي : وقت خلقهما وإيجادهام ؛ ليُعاونوا ويظاهروا عليّ حتى تتخذونهمه أولياء غيري ، شركاءَ معي في استحقاق العبادة { وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ } أيضاً ؛ أي : لا أحضرُ بعضهم عند خلق بعضٍ منهم . { وَ } بالجملة : أنا أستقل بالخلق والإيجاد بل في الوجود أيضاً ؛ لذلك { مَا كُنتُ } في خلق الأشياء وإيجادها محتاجاً إلى المعين والظهير أصلاً ، فيكف { مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ } الضالين عن ساحة عزِّ الحضور { عَضُداً } [ الكهف : 51 ] أعواناً وأنصاراً أعتَضِدُ وأنتصرُ بهم حتى تشاركونهم بي في استحقاق العبادة والإطاعة والانقياد بل ترجّحونهم عليّ بالولاية والمحبة . { وَ } اذكر يا أكمل الرسل { يَوْمَ يَقُولُ } الله سبحانه على سبيل التعبير والتقريع للكفار والمشركين : { نَادُواْ } أيها المنهمكون في الغيّ والضلال { شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ } أنهم شفعاؤكم اليوم ، وعبدتم لهم مثل عبادتي بل أحسن منها حتى ينقذوكم من عذابي ، ويشفعوا لكم عندي { فَدَعَوْهُمْ } صارخين مستغيثين { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } ولم يجيبوا استغاثتهم ؛ لأنهم حينئذٍ مشغولون بحالهم ، مأخوذون بوبالهم ونكالهم ، لذلك لا يلتفتون إليهم { وَ } مع ذلك { جَعَلْنَا بَيْنَهُم } أي : بين العابدين والمعبودين { مَّوْبِقاً } [ الكهف : 52 ] مهلكاً عظيماً ووادياً غائراً عميقاً من أودية جهنم مملوءة بالنار ؛ بحيث لا يمكن تواصلهم أصلاً . { وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ } بعدما عُرضوا أو حُوسبوا ، وسِيقوا نحو جهنم ؛ ليُعذبوا فيها كلٌ على مقتضى ما كسبَ من المعاصي والآثام الموجبة للأخذ والانتقام { فَظَنُّوۤاْ } بل تيقنوا { أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } داخلوها وملاصقوهها ألبتة { وَ } وكيف لا يجزمون بالدخول واللصوف أنهم { لَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً } [ الكهف : 53 ] أي : منصرفاً ومعدِلاً سواها ، ينصرفون إليه مع أن الموكلين من الملائكة يسوقونهم ، ويدخلونهم فيها زجراً وقهراً .