Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 54-61)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَ } كيف يجدون مصرفاً سواها ، ومن أين يتأتى لهم الانصراف اليوم ؛ إذْ هم فوَّتوا على أنفسهم المصرف ، وسبب الانصراف في النشأة الأولى مع أنا { لَقَدْ صَرَّفْنَا } وكررنا { فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ } المرشد إلى الهداية ، الصارفِ عن الضلالة والغواية { لِلنَّاسِ } المنهمكين في الغفلة والنسيان { مِن كُلِّ مَثَلٍ } أي : من كل شيءٍ مثلاً موضحاً ينبههم إلى الهدى ، ويجنبهم عن الغفلة والهوى ، فلم ينتبهوا ولم يتفطنوا بل قابلوا الباطلَ بالحق وجادلوا { وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ } المجبول على النسيان والكفران { أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } [ الكهف : 54 ] أي : جداله ومكابرته أكثر من جدال سائر المخلوقات ، وأن رشده وإيمانه أكثر أيضً منها أيضاً . ثم قال سبحانه : { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ } عن الإيمان وصَرَفهُم { أَن يُؤْمِنُوۤاْ } أي : يوقنوا ويصدّقوا { إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ } أي : النبيُ الهادي المؤيدُ بالكتاب المعجز المرشد { وَ } صرفهم أيضاً أن { يَسْتَغْفِرُواْ } ويتوبوا عن ظهر القلب عقيبَ كل معصيةٍ ، نادمين عنها بلا إصرارٍ وإدمان ؛ ليسقط عنهم الأخذ والانتقام { رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ } ويحيط بهم { سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ } من الإهلاك والاستئصال بغتةً { أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً } [ اكهف : 55 ] أي : أنواعاً وأصنافاً منه ، مترادفةً متواليةً كالكسف والخسف والمسخ وغير ذلك ، فيهلكهم على سبيل التدريج . { وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ } بأنواع الفتوحات والفيوضات الروحانية ، والكشوفات والشهودات اللدنية النورانية { وَمُنذِرِينَ } عن أنواع العذاب والعقاب والنكبات ، والبليات المورثة لأنواع الخذلان الخسران والطرد والحرمان والخلود في النيران إصلاحاً لأحوال الأنام ، وإرشاداً لهم إلى دار السلام ، وحثاً لهم إلى سلوك طريق التوحيد المنجي عن ظلمات الشكوك والأوهام . { وَ } مع ذلك { يُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بالله ورسله ، ويخاصمون معهم متشبثين { بِٱلْبَٰطِلِ } الزائغ الزائل { لِيُدْحِضُواْ } أن ينزعوا { بِهِ ٱلْحَقَّ } ويزلقوا الثابت المستقر المطابق للواقع عن مقره { وَ } لذلك { ٱتَّخَذُوۤاْ ءَايَٰتِي } الدالة على عظمة ذاتي ، ووفور حكمتي ، وكمال قدرتي وقوتي { وَمَآ أُنْذِرُواْ } أي : ما اشتملت عليه من الإنذارات والتخويفات وأنواع الوعيدات { هُزُواً } [ الكهف : 56 ] أي : موضع استهزاءٍ وسخريةٍ ، ومحلَ هزلٍ وضحكةٍ ؛ لذلك نسبوها إلى ما لا يليق بشأنه من السحر الشعر والأساطير الكاذبة ، وغيرها من أنواع الهذيانات والأباطيل الزائغة افتراءً ومراءً . { وَمَنْ أَظْلَمُ } على الله وأسوأ أرباباً لنسبته إليه سبحانه { مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَٰتِ رَبِّهِ } ليتعظ بها ويصلح بسببها { فَأَعْرَضَ عَنْهَا } وانصرف من سماعها ، فكيف عن قبولها امتثالها استنكاراً واستكباراً { وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ } أي : كسبت واقترفت { يَدَاهُ } من الجرائم والآثام وأنواع الكفر والشرك والطغيان ، ولو اتعظوا به وعملوا بمقتضاها لذهبت سيئاتهم وتضاعفت حسناتهمه ، وكيف يتذكرون بها ولا يمكنهم التذكر { إِنَّا } بمقتضى قهرنا وسُخْطِنا عليهم { جَعَلْنَا } أي : طبعنا وختمنا { عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } التي هي وعاء التذّكر والقبول { أَكِنَّةً } حُجباً غليظةٌ كثيفةً مانعةً { أَن يَفْقَهُوهُ } أي : القرآن ويفهموا معانية ومقاصده ، فكيف بغوامض رُموزه وإشاراته { وَ } ختمنا أيضاً { فِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً } صمماً بمنعهم عن الاستماع والإصغاء إليه ، فيكف عن فهمه والعمل به . { وَ } من غلظ غشاوتهم ، وشدة قساوتهم وصممهم { إِن تَدْعُهُمْ } يا أكمل الرسل { إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ } وترشدهم إلى الفلاح والفوز بالنجاح { فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ } ويفوزوا { إِذاً } أي : حين ختم قولبهم ووقر صماخهم { أَبَداً } [ الكهف : 57 ] في أي حالٍ من الأحوال ؛ إذ لا يُعارض فعلنا ولا يُبدَّل قولنا إلا بأمرنا وتوفيقنا . وتكذيبهم الرسل والكتب ، وإصرارُهم على الكفر والشرك ، وإن كان يستدعي نزول العذاب عليهم فجأةً لاستخفافهم بنزوهل إلا أنه يمهلهم { وَرَبُّكَ ٱلْغَفُورُ } المبالغ في ستر ذنوب عباده وعيوبهم ؛ لأنه { ذُو ٱلرَّحْمَةِ } الوسعة والحكمة الكاملة لعلهم يتنبهوا بقبح صنيعهم ، ويتأملوا في وخامة عواقبهم ، فانصرفوا عما هم عليه نادمين ؛ إذ { لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ } على الفور ، لكنْ أمهلهم بمقتضى رحمته وحكمته زماناً لا دواماً رجاء أن يتوبوا ، ويرجعوا حوه تائبين آيبين { بَل لَّهُم } أي : بل لهلاكهم { مَّوْعِدٌ } لا نفع فيه التلافي والتوبة ، وهو يوم الحشر والجزء ، وقيل : يوم بدر { لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } [ الكهف : 58 ] منجيّ ومَخْلصاً بل يُعذبون ويُهلكون فيه حتماً ، بحيث لا يسع لهم التقدم والتأخر أصلاً . { وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ } التي في مرآك أطلالهم ، وآثار منازلهم ومزارعهم { أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ } أي : حين خرجوا عن مقتضى حدودنا وأوامرنا ونواهينا المنزلة في كتبنا لرسلنا وكذبوهم وأنكروا عليهم { وَ } من سنتنا القديمة أنَّا متى أردنا إهلاك قريةٍ من المستوجبين للمقت والهلاك { جَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم } أي : هلاكهم وإهلاكهم { مَّوْعِداً } [ الكهف : 59 ] وقتاً معيناً حين وصلوا إليها هلكوا حتماً مقضياً ؛ إذ لا مردّ لقضائنا المبرم ، ولا معقّب لحكمنا المحكم . { وَ } اذكر يا أكمل الرسل قصة موسى الكليم عليه السلام وإعجباه لنفسه حين خطب على المنبر بعد هلاك القبط ، ودخوله ملك مصر خطبةً عجيبةً بليغةً إلى حيث رقّت القلوب وذرفت العيون ، فقيل له ، هل في الأرض أعلم منك ؟ قال : لا . فعتب عليه سبحانه لإعجابه ، فقال سبحانه : " إن لنا في مجمع البحرين عبداً هو أعلم منك " . فقال موسى عليه السلام : دلني عليه يا ربي ؛ لأخدمه وأتعلم منه ، وأستفيد من فتوحات أنفاسه الشريفة . فقال له سبحانه : " خذ حوتاً مملوحاً يكون زاداً لك واطلبه ، فحيث فقدت الحوت فهو ثمة " فأخذ ومضى على الوجه المأمور . اذكر وقت : { إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَٰهُ } وهو يوشع بن نون ، وكان خادمه { لاۤ أَبْرَحُ } أي : لا أقعد ولا أستريح من السفر { حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ ٱلْبَحْرَيْنِ } ملتقى بحر فارس والروم . وأجد عنده من دلني الله عليه { أَوْ أَمْضِيَ } وأسير { حُقُباً } [ الكهف : 6 ] زماناً طويلاً ومدةً مديدةً إن لم أجده هناك حتى أجده وأستفيد منه ، فرمى الحوت المشوي المملوح في مكتلٍ ، وحمله يوشع فذهبا ، وأوصى موسى لفتاه متى فقدت الحوت أخبرني . { فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } أي : بين البحرين { نَسِيَا } عند المجمع { حُوتَهُمَا } يعني : نسي موسى التفقد والاستخبار من يوشع عنه ، ونسي يوشع أن يذكر لموسى ما رأى من أمر الحوت وحياته ووقوعه في الماء . وذلك أنه عزم يوشع التوضؤ عند المجمع ، وكان على شاطئ البحر صخرةُ ، فتمكن يوشع عليها ليتوضأ ، فانتضح الماء على مكتله ، فترشح على الحوت ، فوثب من المكتل ، ورمى نفسه في البحر { فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ سَرَباً } [ الكهف : 61 ] أي : صار الماء كالطاق يسري الحوت تحته بسهولةٍ ، فتعجب يوشع من حياته ووثبته في الماء وسلوكه ، فارتحلا متجاوزين من البحر تلك الليلة والغد إلى الظهر فنسي يوشع ذكرَ ما رأى لموسى .