Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 18, Ayat: 9-16)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أعَجِبْتَ واستبعدت عن كمال قوتنا وقدرتنا بجعل ما على الأرض صعيداً جرزاً ؟ { أَمْ حَسِبْتَ } وشككت { أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ } أي : قصتهم وشأنهم . والكهف هو : الغار الواسع في الجبل . { وَٱلرَّقِيمِ } هو اسم الجبل الذي فيه الغار ، أو اسم الوادي الذي فيه ، أو اسم قريتهم ، أو كلبهم ، أو لوحُ رصاصي أو حجريُ ، رُقِمَ أو رُقِمت فيه أسماؤهم وجُعل على باب الكهف ، أو أصحابُ الرقيم قومُ آخرون على اختلاف الأقوال والروايات . وبالجملة : { كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا } الدالة على كمال قوتنا وقدرتنا { عَجَباً } [ الكهف : 9 ] أي : آيةً يتعجب منها الناس ، ويستبعدون وقوعها مع أنه لا شك في وقوعها ؛ إذ بلغت من التواتر حداً لا يتوهم فيها الكذب قطعاً ؛ إذ أمثال هذا في جنب قدرتنا الكاملة وقوتنا الشاملة سهلُ يسير . ولو رفعتَ أيها المعتبر المتأمل الإلْفَ والعادة عن البين ، وطرحتَ تكرر المشاهدة والمؤانسة عن العين ، لكان ظهور كل ذرةٍ من ذرائر العالم في التعجب والاستعباد وكمال الغرابة البداعة مثل هذا ، بل أغرب وأعجب من هذا ، فلك أن تراجع وجدانك وتتأمل أمرك وشأنك حتى تجد في نفسك عجائب وغرائب يدهش منها عقلك وينحسر رأيك وفهمك ويكلّ إدراكك ، وبالجملة : استغرقتَ في بحر الحيرة والدهشة من نفسك فكيف من غيرك . أذقنا بلطفك حلاوة مطالعة مبدعاتك ومشاهدة مخترعاتك بنظر العبرة والحضور . اذكر يا أكمل الرسل قصة أصحاب الكهف وقت { إِذْ أَوَى } أي : التجأ ورجع { ٱلْفِتْيَةُ } الخمسة أو السبعة أو الثمانية من أشراف الروم ورؤسائهم ، دعاهم ملكهم دقيانوس إلى الشرك ، وهم موحّدون في أفسهم ، فأبَوا وهربوا منه { إِلَى ٱلْكَهْفِ } ملتجئين { فَقَالُواْ } مناجين مستغيثين من الله : { رَبَّنَآ } يا من ربَّانا بأنواع اللطف الكرم وفقّنا بشرف توحيدك وتقديسك { آتِنَا } بفظلك وجودك { مِن لَّدُنكَ } لا بسبب أعمالنا ومتقضياتها { رَحْمَةً } تنجينا عن يد عدونا وعذابه ، وعن وبال ما دعانا إليه من الكفر والعصيان { وَهَيِّىءْ لَنَا } أسباب معاشنا حين كنا فارّين من العدو وملتجئين إليك ، مستعيذين بكنفك وجورك ووفق علينا { مِنْ أَمْرِنَا } الذي نعمل لمرضاتك ولوجهك الكريم { رَشَداً } [ الكهف : 10 ] أي : هدايةً توصلنا إلى زلال توحيدك آمنين فائزين بلا خوفٍ وخطرٍ ، فاستجبنا لهم مناجاتهم وأعطيناهم حاجاتههم . وبعدما دخلوا الكهف ملتجئين بنا متضرعين { فَضَرَبْنَا } وختمنا { عَلَىٰ آذَانِهِمْ } حين كانوا راقدين { فِي ٱلْكَهْفِ } حجاباً غليظاً يمنعهم سماع الأصوات ملطقاً وأنمناهم على هذا الوجه { سِنِينَ عَدَداً } [ الكهف : 11 ] بلا طعامٍ ولا شرابٍ ولا شيءٍ من أسباب المعاش ، وهم أحياء في صور الأموات ، منقطعين عن لوازم الحياة مطلقاً سوى الأنفاس تجيء وتذهب . { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ } وأيقظناهم من منامهم بعثَ الموتى للحشر { لِنَعْلَمَ } أي : نجرّب ونميّز { أَيُّ الحِزْبَيْنِ } المختلفين بعدما اختلفوا في مدة لبثهم { أَحْصَىٰ } أي : أضبط وأحفظ { لِمَا لَبِثُواْ } من المدة { أَمَداً } [ الكهف : 12 ] يعني : أيهم أحفظ ضبطاً لمدة رقودهم في الكهف ، فكلا الفريقين . أي : اليهود والنصارى . لا يعلمان مدة لبثهم حقااً مطاباً للواقع . بل : { نَحْنُ نَقُصُّ } من مقا مفضلنا وجودنا { عَلَيْكَ } يا أكمل الرسل { نبَأَهُم } أي : خبرَ مدة لبثهم ملتبساً { بِٱلْحَقِّ } الثابت الصحيح المطابق للواقع { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ } أي : شبّان من أرباب الفتوة والمروءة ، وُفقوا من عند الله بالعقل الكامل والرشد التام إلى أن { آمَنُواْ } وأذعنوا { بِرَبِّهِمْ } أي : بتوحيد مربيهم باستعمالهم عقولهم الموهوبة لهم إلى دلائل توحيده { وَزِدْنَاهُمْ } من لدّنا بعدما أخذوا بالتأمل والتدبر في آياتنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمال أوصافنا { هُدًى } [ الكهف : 13 ] وزيادةَ رشد تفضلاً وامتناناً . { وَ } ثبتناهم في الهداية والتوحيد بأن { رَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } محبة الإيمان والعرفان ، واذكر يا أكمل الرسل وقت { إِذْ قَامُواْ } بين يدي دقيانوس الظالم الطاغي حين دعاهم إلى الشرك والكفر على رءوس الملأ ، وبعدما سمعةا منه دعوته { فَقَالُواْ } بلا مبالاةٍ له ولسطوته وشوكته : { رَبُّنَا } الذي أظهَرَنا من كتم العدم ، وأوجَدَنا في فضاء الوجود { رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي : هو رب العلويات والسفليات الغيب والشهادة والظاهر والباطن ، أوجد الكل بوحدته واستقلاله في التصرف والاستيلاء بلا مشاركةٍ مشيرٍ ومظاهرةِ ظهيرٍ ، هو مستحق للألوهية والربوبية { لَن نَّدْعُوَاْ } ونعبد { مِن دُونِهِ إِلـٰهاً } باطلاً ؛ ذ لا مستحق لعبادة إلا هو ، والله لئن دعوتنا إلهاً سواه { لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } [ الكهف : 14 ] أي : قولاً ذا بعدٍ عن الحق والتحقيق بمراحل ، وصرنا حينئذٍ مغمورين في الشرك والكفر وأنواع الضلال والطغيان ، عصمنا الله منها . ثم قالوا على وجه التعريض والتسفيه : { هَـٰؤُلاۤءِ } الضالون عن منهج الرشاد ومسلك السداد { قَوْمُنَا ٱتَّخَذُواْ } من غوايتهم وضلالهم { مِن دُونِهِ } سبجانه { آلِهَةً } باطلةً أي : أصناماً وأوثاناً يعبدونها لعبادة الله { لَّوْلاَ } أي : هلا { يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ } أي : بحجةٍ واضحةٍ وبيّنةٍ لائحةٍ ومعجزةٍ باهرةٍ ، صادرةٍ من قِبلهم دالةٍ على لياقتهم الألوهية والربوبية ، فإن لم يأتوا فهم حينئذ مفترون على الله بإثبات الشريك له { فَمَنْ أَظْلَمُ } وأطغى وأضل { مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ } الواحد الأحد ، المستقل بالألوهية بإثبات الشريك له ، سيما أمثال هذه التماثيل العاطلة { كَذِباً } [ الكهف : 15 ] مخالفاً للواقع ، بلا مستند عقلي أو نقلي ، بل ظلماً وزوراً . { َوَ } بعدما جرى بينهم وبين دقيانوس ما جرى ، قال بعض الفتية لبعضهم : قد وجب علينا الآن الاعتزال منهم { إِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ } وهجرتموهم { وَمَا يَعْبُدُونَ } أي : معبوداتهم من الأصنام والأوثان التي يعتقدونها آلهةً شركاءَ مع الله يعبدونها كعبادته { إِلاَّ ٱللَّهَ } الواحد الأحد الحق الحقيق بالعبادة ، وأخلصتم العبادة له سبحانه بلا خوفٍ منه ودهشةٍ ، كان أولى وأليقَ بحالكم . وبالجملة : اتفقوا على الاعتزال واختيار الغربة والفرار من بينهم ، فاعتزلوهم منهم وخرجوا من أظهرهم { فَأْوُوا } وانصرفوا { إِلَى ٱلْكَهْفِ } المعهود ، ملتجئين إلى ربكم من خوف عدوكم ، متوكلين عليه في رزقكم ومعاشكم { يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم } سبحانه ويبسط عليكم { مِّن } سعة { رَّحْمَتِهِ } وجوده ما تعيشون وتبقون بسبب أن تعلق مشيئته بإبقائكم { وَ } بعدما التجأتم إلى الله ، وتوكلتم عليه ، مفوضين أمروكم كلها إليه { وَيُهَيِّئْ لَكُمْ } ويسهل عليكم { مِّنْ أَمْرِكُمْ } الذي اخترتم لرضا الله ورعاية جنابه { مِّرْفَقاً } [ الكهف : 16 ] أي : ما ترفقون وتنتفعون به من اللذات الروحانية يدل ما فوّتم لأنفسكم من اللذات الجسمانية .