Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 26-38)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ فَكُلِي } يا أمي من النخلة { وَٱشْرَبِي } من النهر { وَقَرِّي عَيْناً } أي : نوّري عينك بولدك وطيبي نفسك به { فَإِمَّا تَرَيِنَّ } أي : إن رأتي { مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً } يسألك عن حالك وولدك { فَقُولِيۤ } في جوابه ؛ يعني : أشيري إليه : { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً } أي : صمتاً عن التكلم { فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً } [ مريم : 26 ] أي : إنساناً . والحكمة في إلهام ولادتها وشاع بين الأنام قصتُها ، فمكثت مدة نفاسها في غارٍ هناك وبعدما انقضتْ : { فَأَتَتْ بِهِ } أي : بولدها { قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ } أي : ولدَها على صدرها ، فلما رأوه معها ، أخذوا في لومها وتقريعها ؛ حيث { قَالُواْ } معيرين منادين بها على سبيل التوبيخ واللوم : { يٰمَرْيَمُ } الصالحة العفيفة المشهورة بالعصمة في بيت المقدس { لَقَدْ جِئْتِ } بالآخر { شَيْئاً فَرِيّاً } [ مريم : 27 ] منكراً بديعاً في غاية الشناعة والفضاحة . { يٰأُخْتَ هَارُونَ } هو رجلُ صالحُ نسبوها إليه تهكماً ، وقيل : هي من أولاد هارون أخي موسى ، نسبوها إليه وإن تطاولت المدة بينهما { مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ } منسوبٍ إلى الفواحش والزنا والخروج عن حدود الله { وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } [ مريم : 28 ] زانيةً فاجرةً بل هما من أصلح القوم وأزكاهما عن الفواحش والفسوق ، فكيف أنت ومن أين اكتسبت هذا ؟ ! . وبعدما تمادى تعييرهم وتشنيعهم { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } أي : إلى ولدها ، بأن قل لهم في جوابهم ما يفحمون به ويسكتون ، بل يتيهون ويتحيرون ، ولما رأوا إشاراتها إليه وتفويضها الجواب نحوه { قَالُواْ } على سبيل الاستهزاء : { كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً } [ مريم : 29 ] رضيعاً ولم يُعهد من مثله التكلم ، أنت قد خجلتِ واستحييتِ تدفعينَنَا بهذا الرضيع ، مع أنه معصومُ لا ذنب له . ولما رأى عيسى اشتداد اللائمين على أمه بالتقرح والتشنيع ، واضطرار أمه واضطرابها من لومهم ، أخذ في الجواب بإلهام الله إياه ؛ حيث { قَالَ } مفصحاً معرباً على وجه الفصاحة والبلاغة ، ومشتملاً على الحكمة البالغة : لا تعيروا أيها الجاهلون عن أمري وعلو شأني في أمي الكاملة المتناهية في العصمة والعفة ، ولا ترموها بما لا يليق بعلو شأنها وجلالة قدرها { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ } الحكيم المتقن في أفعاله ، المستقل في حكمه وآثاره ، خصني بالنبوة الرسالة ، بأنواع الكرامات والمعجزات ، وأبدعني من محض جوده من روحه ، وأرسلني إلى عباده للهداية والإرشاد إلى توحيده ؛ لذلك { آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ } أي : الإنجيل النازل من عنده علي ؛ لترويج رسالتي وإرشادي وتتميم تكميلي { وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } [ مريم : 30 ] كسائر الأنبياء ، { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً } نفّاعاً كثيرَ الخير والبركة لأهل الصلاح من البرية { أَيْنَ مَا كُنتُ } وحيثما توطنتُ وجلستُ معهم يَصِل خيري إليهم . { وَ } من كمال تربية الله وتزكيته إياي { أَوْصَانِي } وأمرني { بِٱلصَّلاَةِ } والميلِ التام والتوجه نحوه بالجوارح والأركان { وَٱلزَّكَاةِ } أي : التخلية والتطهير عن جميع الرذائل والخبائث المتعلقة بالنفوس البشرية ، المنغمسة بالعلائق الدنيوية ، المبعدة عن صفاء الوحدة الذاتية { مَا دُمْتُ حَيّاً } [ مريم : 31 ] بروح الله الذي أبدعني منه خالصاً صافياً عن جميع الكدورات ، وأوصاني بما أوصاني من عنايةٍ منه لأكون باقياً على صفائي ، وطهارة لاهوتي بلا كدرٍ من خبائث الناسوت . { وَ } جعلني أيضاً { بَرّاً } أي : باراً محسناً { بِوَٰلِدَتِي } ممتثلاً بأمرها ، قائماً بخدمتها ، خافضاً جناح الذل من الرحمة إياها ، والحمد لولي الحمد الذي ربَّاني سيعداً على الطهارة الصلاح وأنواع الكرامة والفلاح والتذلل والتواضع مع عموم عباده { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً } متكبراً متجبيراً على الناس { شَقِيّاً } [ مريم : 32 ] بعيداً عن روح الله مستجلياً لعذابه . { وَ } متى سلمني الله ، وطهرني عن جميع ما يعوقني عن مقتضى صرافة الوحدة الذاتية الإلهية المعبرة عنها بروح الله صار { ٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ } أي : سلام الله وحفظه { يَوْمَ وُلِدْتُّ } عن أمرٍ يحفظني من مسِّ الشيطان ، { وَيَوْمَ أَمُوتُ } يحفظني عن شرِّه ووسوسته أيضاً { وَيَوْمَ أُبْعَثُ } للحشر أكون { حَيّاً } [ مريم : 33 ] بحياة الله وروحه كما كنت قبل هذا . ثم لما سمعوا من عيسى ما سمعوا ، تاهوا وتحيروا في أمره ، وصاروا حيارى متعجبين في علو شأه وشأن والدته وجلالة قدرهما ، فاختلفوا وتحزبوا ، وفرقةُ منهم قالت بألوهيته ، وفرقةُ قالت بإبنيته لله ، وفرقةُ قالت بالأقانيم ، ومنهم من رماه وأمه بما لا يليق بشأنهما . أخبر سبحانه حبيبه بما هو الواقع الحق الصريح فقال : { ذٰلِكَ } أي : القائل بهذه الكلمات والموصوف بهذه الصفات المذكورة هو { عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ } لا ما قاله الغلاة من النصارى ، ولا ما قاله طغاة اليهود بل { قَوْلَ ٱلْحَقِّ } هذا { ٱلَّذِي } ذُكر لك يا أكمل الرسل { فِيهِ يَمْتُرُونَ } [ مريم : 34 ] ويترددون ، مع أنه لا ريب فيه ، لا ما قالته النصارى بأنه ابن الله . إذ { مَا كَانَ للَّهِ } أي : ما صحَّ وجاز بعلو شأنه سبحانه { أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ } أي : هو منزهُ في ذاته عن الأهل والولد ؛ لأنه لا يليق بذاته المعاونةُ والاستظهارُ بهما تعالى عن ذلك ، بل من حكمه وشأنه أنه { إِذَا قَضَىٰ } وأراد { أَمْراً } من الأمور الكائنة في عالم الأمر { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ } حين تعلق إرادته بتكوينه : { كُن } بلا ترتيبٍ في السمع بتقديم الكاف على النون . إذ كلامه القائم بنفسه سبحانه نفسيُ ذاتيُ لا يُتوهم فيه الحروفُ والأصوات ومقاطعها ؛ ليتصور الترتيب بالتقدم والتأخر كما يُتوهم في الألفاظ الصادرة عنا ، بل يخلق سبحانه بقدرته الكاملة في لساننا لفظاً معجزاً لا من جنس ألفاظنا ليسع لنا التعبير عن كلامه وقتَ إرادة نفودِ قضائه ، وهو لفظه : " كن " وعن حصول المقضي بلفظ : { فَيَكُونُ } [ مريم : 35 ] أيضاً بلا تراخٍ وتعقيبٍ يُفهم من الفاء ، ومَن كان شأنُه هذامن أين يكون له حاجة إلى الأهل والولد وإحبالُ المرأة ووقاعها ؟ ! تعالى عما يقولون علواً كبيراً . بل هو سبحانه واحدُ أحدُ فردُ صمدُ لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً هذا ؛ أي : من قوله : { ذٰلِكَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ } [ مريم : 34 ] إلى هنا كلامُ وقع في البين . ثم قال سبحانه حكايةً عن عيسى ، ومن جملة ما أوحى إليه : { وَ } بعدما بالغ عيسى في بيان طهارته وعصمة أمه ، وتكلم في غير أوان التكلم بكلام عجيبٍ غريبٍ ، عَلِم بنور النبوة ونجابةٍ الفطرة أن بعضهم قد يقولون في شأنه وشأن أمه ويتخذونه إلهاً ، أورد كلاماً نافياً لظنونهم وجهالاتهم دافعاً لغلوهم واتخاذهم . فقال : { إِنَّ ٱللَّهَ } الذي أوجدني وأبدعني بلا أبٍ هو { رَبِّي } الذي ربَّاني وأمي بأنواع الكرامة ، وأظهرني من كتم العدم بمقتضى قدرته { وَ } هو سبحانه { رَبُّكُمْ } أيضاً أوجدكم وأظهركم مثلي إيجاداً إبداعياً { فَٱعْبُدُوهُ } ووحّدوه ولا تشركوا معه شيئاً من المخلوقات ، وتوجهوا نحوه بالتذلل التام والانكسار ؛ إذ هو المستحق للعبادة لا معبود سواه ، ولا إله إلا هو { هَـٰذَا } الذي بينت لكم { صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [ مريم : 36 ] وطريقُ واضحُ سويُ موصلُ إلى معرفة الحق وتوحيده ، فاتبعوه إن كنتم مؤمنين موقنين بتوحيده . وبعدما نبههم عيسى . صلوات الرحمن عليه . بالطريق الأبين الأوضح { فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ } أي : فِرق النصارى واليهود في شأنه وشأنه أمه اختلافاً ناشئاً { مِن بَيْنِهِمْ } بلا سيدٍ شرعيٍ وعقليٍ ، فأفرط النصارى باتخاذه إلهاً وابناً له ، وفرّط اليهود بنسبته وأمه إلى ما لا يليق بشأنهما . وبالجملة : فاستحق كلا الفريقين بأشد العذاب وأسوأ العقاب { فَوَيْلٌ } عظيمُ وعذابُ شديدُ أليمُ { لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : ستروا ما هو الحق في شأنه ، وعدلوا عنه إلى الباطل بلا حجةٍ وبرهانٍ { مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ مريم : 37 ] أي : من شهود يوم القيامة وظهوره ، وهم يُسحبون فيه على وجوههم نحو النار ، ويُكبون عليها صاغرين مضطرين . { أَسْمِعْ } أيها السميمع { بِهِمْ } أي : بأنينهم وحنينهم { وَأَبْصِرْ } أيها المبصر بأغلالهم وسلاسلهم { يَوْمَ يَأْتُونَنَا } للعرض والحساب مضطرين مسحوبين { لَـٰكِنِ ٱلظَّالِمُونَ } الخارجون عن مقتضى أوامرنا ونواهينا { ٱلْيَوْمَ } الذي في النشأة الأولى { فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ مريم : 38 ] وجهلٍ عظيم عن أهوال يوم القيامة وأفزاعه .