Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 39-51)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَأَنْذِرْهُمْ } يا أكمل الرسل مَن عندك لهم { يَوْمَ ٱلْحَسْرَةِ } المعدة للجزاء ؛ بحيث لا يكون فيها التلاقي والتدارك على مفات سوى الحسرة والندامة الغير المفيدة { إِذْ قُضِيَ ٱلأَمْرُ } ونزلَ العذاب ومضى زمان امتثال المأمور { وَ } الحال أنه { هُمْ فِي غَفْلَةٍ } وغرورٍ عن مضيه { وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ مريم : 39 ] ولا يصدقون بإتيان هذا اليوم الموعود على ألسنة الرسل والكتب ، وكيف لا يصدقون هذا اليوم أولئك الكاذبون المكذبون المستغرقون في بحر الغفلة والضلال التائهون في تيه الغرور . { إِنَّا } من مقام قهرنا وجلالنا { نَحْنُ } بانفرادنا ووحدتنا { نَرِثُ ٱلأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا } بعد انقهارها واضمحلال أجزائها وتشتيت أركانها بمقتضى القدرة الغالبة ؛ بحيث صار كل من عليها فانٍ ، ولم يبقَ سوى وجهنا الكريم وصفاتنا القديمة ، فانقلبت تجلياتنا المتشعشعة المتجددة من هذا النمط البديع إلى نمطٍ أبدعَ منه وأكملَ ؛ إذ نحن في كل يومٍ وآنٍ شأنٍ ، ولا يشغلنا شأنٌ عن شأنٍ . { وَ } كيف لا نرث من على الأرض الوجودَ وفضاءَ الشهودِ ؛ إذ الكل { إِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [ مريم : 40 ] رجوع الظل إلى ذي الظل ، والأمواج إلى البحر ، والأضواء والأظلال إلى شمس الذات ، وبعد رجوع الكل إلينا نُودِي من وراء سرادقات عزنا وجلالنا : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } ؟ ! وأجيب أيضاً منها ؛ إذ لا يجب الوجود لسوانا : { لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] للأظلال والأغيار . { وَٱذْكُرْ } يا أكمر الرسل { فِي ٱلْكِتَابِ } المتلوِّ عليك المنزل إليك جدَّك { إِبْرَاهِيمَ } أي : محامد أخلاقه ومحاسن شيمه ؛ لتنتفع بها أنت ومن معك من المؤمنين ، وتمتثل بأخلاقه أنت وهم { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً } صدوقاً مبالغاً في الصدق والصداقة وتصديق الحق وتوحيده { نَّبِيّاً } [ مريم : 41 ] من خُلَّص الأنبياء . اذكر أوان انكشافه وإيقاظه من منام الغفلة التي هي عبادة الأوثان والأصنام وقت : { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ } مستنكراً عليه متعجباً من أمره ، منادياً له رجاء أن يتفطن وتنبه بما تنبه به هو : { يٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ } وتطيع { مَا لاَ يَسْمَعُ } أي : شيئاً لا يقدر على السمع { وَلاَ يُبْصِرُ } أي : لا يقدر على الإبصار ، والمعبودُ لا بدَّ أن يَرى ويَسمع أحوال عباده وحاجاتهم ومناجاتهم ، { وَ } إذا لم يسمع ولم يبصر { لاَ يُغْنِي } ويدفع { عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] من مكروهات ولا يعينك ، فلا يصلح إذاً للألوهية والربوبية ، فلِمَ عبدت وأطعتَ له مع أنه نحتَّه بيدك وأظهرتَ أنت هيكله وشكله ، والعجب منك كل العجب أنه مصنوعك أخذته إلهاً صانعاً معبوداً مستحقاً للعبادة ، مع أنك من ذوي الرشل والعلم ، وهو جمادُ لا شعور له أصلاً . { يٰأَبَتِ إِنِّي } وإنت كنت ابنك أصغر منك لكن { قَدْ جَآءَنِي } ونزل عليّ { مِنَ ٱلْعِلْمِ } ومن قِبل الحق مع صغر سني { مَا لَمْ يَأْتِكَ } مع كبرك ؛ لأن الفضل بيد الله ويمقتضى إرادته يؤتيه من يشاء { فَٱتَّبِعْنِيۤ } أي : اتبع ما أنزل عليّ من قِبل ربي من خلوص الاعتقاد { أَهْدِكَ } بتوفيق الله وإرشاده { صِرَاطاً سَوِيّاً } [ مريم : 43 ] موصلاً إلى المعبود بالحق وتوحيده . { يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ } بعباده هذه التامثيل الباطلة والهياكل العاطلة ، إذ ما هو إلا بإغوائه وتضليله ؛ لأنه عدو لك ولأبناء عداوةً قديمةً مستمرةً { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ } المغوي المضل عن طريق الحق { كَانَ } من الأزل إلى الأبد { لِلرَّحْمَـٰنِ } المفيض لأصناف الخيرات والسعادات سيما الإيمان والعرفان المنجي عن الحرمان والخذلان عند لقاء الحنان المنان { عَصِيّاً } [ مريم : 44 ] عصى هو وانتظر لعصيان غيره وسعى بإضلاله وتسويلاته ليضل أهل الحق عن طريقه . { يٰأَبَتِ إِنِّيۤ } من غاية إشفاقي وعطفي { أَخَافُ } عليك { أَن يَمَسَّكَ } وينزل { عَذَابٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ } المنتقم لأهل الضلال والطغيان بدل الثواب والغفران { فَتَكُونَ } حينئذٍ بشاوتك وطغيانك { لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً } [ مريم : 45 ] صديقاً ، وللرحمن عدواً ببغيك وعصيانك له ومتابعتك لعدوه . ثم لما تمادى مكالمة إبراهيم مع أبيه ، ومحاورته على سبيل النصح والتذكير { قَالَ } أبوه مقرعاً عليه مهدداً له مضلللاً إياه : { أَرَاغِبٌ أَنتَ } أي : مُعرضُ بريءُ { عَنْ آلِهَتِي } ومعبوداتي ، مع أن عبادتهم أولى وأليق بحالك { يٰإِبْرَاهِيمُ } إذ خير الأولاد أن يتبع آباءه في الدين ، سيما وقد سلف أجدادك على هذا وأنت استنكفت عن عبادة آلهتنا ، انتهِ عن اعتقادك هذا ، واللهِ { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ } ولم تمتنع { لأَرْجُمَنَّكَ } وأرميَنَّك بالأحجار على رءوس الأشهاد حتى تموت ، قم من عندي { وَٱهْجُرْنِي } واتركني { مَلِيّاً } [ مريم : 46 ] زماناً طويلاً ، فإن ندمت عن اعتقادك هذا ، ورجعتَ إلى ما كنا عليه . يعني عبادة الأصنام . فارجع إليّ ، وإلا فاذهب لا علاقة بين وبينك فأا بريء منك . ثم لما رأى إبراهيم عليه السلام شدة غيّه وضلاله ، ورسوخ جهله وطغيانه { قَالَ } مسترجعاً إلى الله مودعاً عليه مسلماً : { سَلاَمٌ عَلَيْكَ } أي : سلامي عليك يا أبي ، أهجرك بإجازتك إلا أني { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ } لينقذك من أوزار الشرك ، ويوصلك إلى مرتبة توحيده شكراً لأبوتك ، ورعايةً لحضانتك ، وألتجئ نحو الحق ، وألوذ به من شرِّك الذي هددتني به ، { إِنَّهُ } سبحانه { كَانَ بِي حَفِيّاً } [ مريم : 47 ] مشفقاً رحيماً يحفظني من شرِّك ومن شرِّ جميع من عاداني . { وَ } متى لو يُفِدْ لك نصحي ، ولم ينفع لك تذكيري ووعظي { أَعْتَزِلُكُمْ } وأترككم على حالكم { وَ } أترك أيضاً { مَا تَدْعُونَ } وتعبدون { مِن دُونِ ٱللَّهِ } وأتبرأ عنهم { وَأَدْعُو رَبِّي } الذي ربَّاني بفضله بالإيمان ، وأوصلني إلى قضاء التوحيد والعرفان ، وأعبد إياه وأطبعه في جميع أوقاتي وحالاتي { عَسَىۤ أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي } والتوجه نحو والتحنن إليه { شَقِيّاً } [ مريم : 48 ] خائباً خاسراً عن رحمته ، ذا شقاوةٍ جالبةٍ لسخط الله وغضبه . { فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ } وبَعُدَ عنهم ، واختار الغربةَ والفرارَ من بينهم { وَ } تركَ عبادة { مَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } من الأوثان والأصنام { وَهَبْنَا لَهُ } من مقام جودنا وفضلنا { إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } ليؤانس بهم ، ويدفع كربة الغربة بصحبتهما { وَ } لنجابة طينتهما وكرامة فطرتهما { كُلاًّ } منهما { جَعَلْنَا نَبِيّاً } [ مريم : 49 ] مثل أبيهما مهبطاً للوحي والإلهام مثله . { وَوَهَبْنَا لَهْم } أي : لإبراهيم وولديه { مِّن } سعة { رَّحْمَتِنَا } ووفور جودنا الأموالَ والأولادَ والجاهَ والثروةَ ، إلى أن صاروا مرجع الأنم وحاكمهم في الأحكام إلى يوم القيامة { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ } أي : جعلنا ثناءهم ومدحهم العائد إليهم عن ألسنة البرايا ثناءَ صدقٍ و تحقيقٍ ، لا خطابة تحننٍ كثناء سائر الملوك والجبابرة ، لذلك صار ثناؤهم { عَلِيّاً } [ مريم : 50 ] مظهراً لعلو رتبتهم وشأنهم إلى نقراض النشأة الأولى ، كل ذلك ببركة دعاء إبراهيم عليه السلام ، وإجابة الحق له ؛ حيث قال في مناجاته مع ربه : { وَٱجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي ٱلآخِرِينَ } [ الشعراء : 84 ] . { وَٱذْكُرْ } يا أكمل الرسل { فِي ٱلْكِتَابِ } المنزل عليك أخاك { مُوسَىٰ } الكليم وقصة انكشافه من الشجرة المباركة { إِنَّهُ } من كمال انكشافه وشهوده بوحدة الحق { كَانَ مُخْلِصاً } خُلَّص للتوحيد ، وصفا عن أكدار ناسوته مطلقاً { وَ } مع ذلك { كَانَ رَسُولاً } مرسلاً إلى بني إسرائيل ؛ للإرشاد والتكميل مؤيداً بالكتاب والمعجزات { نَّبِيّاً } [ مريم : 51 ] أيضاً بالوحي والإلهام والرؤيا .