Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 52-64)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَ } لكمال إخلاصه ومزيد اختصاصه بنا { نَادَيْنَاهُ } بعد المجاهدة الكثيرة والرياضات البليغة { مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلأَيْمَنِ } أي : ذي اليُمْنِ والبركة وأنواع السعادة لموسى { وَ } بعدما انكشف بالنداء بما انكشف وشهد ما شهد { قَرَّبْنَاهُ } بنا إلى أن صار { نَجِيّاً } [ مريم : 52 ] مناجياً بنا متكلماً معنا ؛ إذ كنا حينئذٍ سمعه وبصره وجميع قواه ، فينا يسمع ، وبنا يبصر ، وبنا يتكلم . { وَوَهَبْنَا لَهُ مِن } كمال { رَّحْمَتِنَآ } وفضلنا إياه تأييداً له وتعضيداً { أَخَاهُ هَارُونَ } ليؤيده ويقويه في تنفيذ أحكام النبوة والرسالة { نَبِيّاً } [ مريم : 53 ] ليكون أيضاً على عزيمةٍ صادقةٍ وقصدٍ خالصٍ في إجراء الأحكام الإلهية . { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ } أيضاً جدك { إِسْمَاعِيلَ } ذبيح الله الراضي بجميع ما جرى عليه من قضائه { إِنَّهُ } من كمال وثوقه واعتماده على الله وتفويضه الأمور كلها إليه { كَانَ صَادِقَ ٱلْوَعْدِ } والعهد عند الله وافياً لميثاقه ، صابراً على مصائبه وبلائه ، شاكراً لآلائه ونعمائه { وَكَانَ } أيضاً كأبيه وإخوته { رَسُولاً نَّبِيّاً } [ مريم : 54 ] وإن لم ينزل عليه الشرع ؛ إذ بعض أولاد إبراهيم . صلوات الرحمن عليه وعليهم . كانوا أنبياء مرسلين جارين على ملة أبيهم وشرعه . { وَ } من خصائله الحميدة أنه { كَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ } أولاً ؛ لأنهم أولى بالإرشاد والتكميل وأحق من غيرهم { بِٱلصَّـلاَةِ } التي هي التوجه نحو الحق بجميع الجوارح والأركان ، والتقرب نحوه عن ظهر القلب ومحض الجنان { وَٱلزَّكَـاةِ } التي هي تصفية النية وتخلية الطوية عن الميل إلى مزخرفات الدنيا وحطامها الزائلة ، { وَكَانَ } من كمال تنزهه عن العلائق والعوائق العائقة عن التوجه الخالص نحو الحق { عِندَ رَبِّهِ } الذي ربَّاه على كمال الرضا والتسليم { مَرْضِيّاً } [ مريم : 55 ] لوفائه الوعد ، واستقامته فيه ، وصبره على ما جرى عليه من البلوى . { وَٱذْكُرْ } يا أكمل الرسل { فِي ٱلْكِتَابِ } أيضاً { إِدْرِيسَ } صاحب دراسة التوحيد والعرفان ، وقالع أهوية النفس وأمانيها بشدائد الرياضات والمجاهدات في مسالك التصديق والإيقان { إِنَّهُ } من كمال رشده وحكمته { كَانَ صِدِّيقاً } مبالغاً في التصديق والتحقيق { نَّبِيَّاً } [ مريم : 56 ] مبعوثاً إلى الناس كسائر الأنبياء للهداية والتكميل . { وَ } لعلو شأه وسموّ برهانه وكمال تصفيته ، وتزكيته عن لوازم البشرية { رَفَعْنَاهُ } تلطفاً إياه { مَكَاناً عَلِيّاً } [ مريم : 57 ] هو أعلى درجات المعرفة والتوحيد . وقيل : إلى السماء الرابعة أو السادسة . { أُولَـٰئِكَ } المذكورون من زكريا إلى إدريس كلهم أنبياء الله ، وأُمناؤه في أرضه ؛ لأنهم { ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم } بأنواع النعم الظاهرة والباطنة ، واصطفاهم من بين البرية للهداية والتكميل ، وهم { مِّنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ } المنتشئين { مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } في السفينة حين ظهر الطوفان على وجه الأرض { وَ } بعضهم { مِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَ } ابنه يعقوب الملقب من عند الله { إِسْرَائِيلَ وَ } وكلٌ منهم { مِمَّنْ هَدَيْنَا } إلى توحيدنا { وَٱجْتَبَيْنَآ } من بين البرايا للتكميل والتشريع ، ووضع الأحكام بين الأنام كلهم من كمال يقينهم وعرفانهم وتمكنهم في مقر التوحيد { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ ٱلرَّحْمَـٰنِ } ودلائل توحيده وتجريده { خَرُّواْ } خرورَ تواضعٍ ورهبةٍ { سُجَّداً } متذللين واضعين جباههم على ترابِ المذلة والهوان ، راجعين من سعة رحمته على مقتضى لطفه وجماله { وَبُكِيّاً } [ مريم : 58 ] باكين خائفين من خشية الله بمقتضى قهره وجلاله ، فإن المؤمن لا بدَّ أن يكون في جميع حالاته بين الخوف والرجاء . ثما لما ظهر على الأرض التي هي محل الشرور والفتن وأنواع الفسادات ما ظهر من أنواع المكروهات والمنكرات ، وهم عند ظهورها واشتهارها بذلوا جهدهم في تنفيذ الأحكام الشرعية المنزلة على مقتضى زمان كلٍ منهم ، فكلموا وأرشدوا مقدار جهدهم وطاقتهم . { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ } واستعقبهم { خَلْفٌ } سوءٌ . بالسكن . لا خلَف جيد صدق بالحركة . قد { أَضَاعُواْ } وأبطلوا { ٱلصَّلَٰوةَ } المقربة نحو الحق مع أنها من أقوى أسباب الإيمان { وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَٰتِ } النفسانية المبعدة عنه الجالبة لأنواع العذاب النكال ، وأباحوها لنفوسهم وأصروا على إباحتها { فَسَوْفَ يَلْقَونَ } في النشأة الأولى { غَيّاً } [ مريم : 59 ] شراً وخسراناً أو عذاباً ونيراناً يترتب على شهواتهم ولذاتهم الفانية . { إِلاَّ مَن تَابَ } ورجع عنها نادماً ولم يرجع إليها أصلاً { وَآمَنَ } أي : صدق جرمتها { وَ } بعد التوبة والرجوع { عَمِلَ صَالِحاً } ليصلح ما أفسد بمتابعة الهوى { فَأُوْلَـٰئِكَ } التائبون الآيبون النادمون عما صدر عنهم من متابعة الهوى بإغواء الشيطان وإغرائه { يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ } لسائر المؤمنين المطيعين { وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } [ مريم : 60 ] أي : لا يُنقصون شيئاً من درجات المؤمنين الغير العاصين ، إذن كانت توبتهم على وجه الإخلاص والندامة الكاملة ، بل لهم كسائر عباد الله . { جَنَّاتِ عَدْنٍ ٱلَّتِي وَعَدَ ٱلرَّحْمَـٰنُ عِبَادَهُ } تفضلاً عليهم وجزاءً لأعمالهم وإيمانهم { بِٱلْغَيْبِ } أي : بلوح القضاء ومضي العلم يصلون إليها ويتمكنون فيها { إِنَّهُ } من كمال عطفه ورحمته لعباده { كَانَ وَعْدُهُ } الذي وعده إياهم { مَأْتِيّاً } [ مريم : 61 ] أي : حاصلاً بلا ريبٍ وترددٍ . ومتى دخلوا في دار السلام { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا } من أحدٍ { لَغْواً } فضولاً من الكلام { إِلاَّ سَلاَماً } من كل جانبٍ تحيةً وتكريماً وترحيباً { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ } الصوري المعنوي معداً مهيأ { فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 62 ] أي : مستوعباً لجميع الأوقات ؛ إذ أكلها دائم . { تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ } الموصوفة الموعودة { ٱلَّتِي نُورِثُ } أي : نوطن ونمكن { مِنْ عِبَادِنَا } فيها { مَن كَانَ } منهم { تَقِيّاً } [ مريم : 63 ] متصفاً بالتقوى حَذِراً عن الهوى خائفاً . { وَ } بعدما أبطأ الوحي على رسول الله حي سأله المشركون من قصة أصحاب الكهف وأمر الروح وقصة ذي القرنين ، فوعد لهم الجواب ولم يستثنِ ، وانقطع الوحي خمسة عشر يوماً . وقيل : أربعين . حتى عيّروه واستهزءوا معه ؛ حيث قالوا : ودّعه ربه وقلاه . ثم لما نزل جحبريل عليه السلام استبطأ نزولَه وشكا ، قال جبريل عليه السلام في جوابه : نحن معاشر الملائكة { مَا نَتَنَزَّلُ } ونوحي إلى أحدٍ { إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } وإنزاله وإرساله ؛ إذ التصرف { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا } أي : عندنا وفي علننا { وَمَا خَلْفَنَا } أي : في سرنا واستعدادنا ، وما غاب عنا وخفي علينا { وَمَا بَيْنَ ذٰلِكَ } الطرفين المذكورينن ، وبالجملة : مستوعبُ بنا ، محيطُ لجميع أحوالنا بلا فوت شيءٍ وغيبته عنه ، بل الكل حاضرُ عنده { وَ } حينئذٍ { مَا كَانَ رَبُّكَ } تعالى شأنه { نَسِيّاً } [ مريم : 64 ] حتى يُنسب إبطاء الوحي إلى نسيانه .