Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 65-76)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وكيف يتصور نسيانه ؛ إذ هو { رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } لا يعزب ويغيب عن علمه شيء منها لمحةً ، وإذ تحققتَ ما تلنا عليك يا أكمل الرسل وتأملتَ في معناه حق التأمل والتدبر { فَٱعْبُدْهُ } راجياً منه العناية على العبادة وجزاء الخير { وَٱصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ } وتحمل لمتاعبها ، واثبت عليها ، ولا تستعجل بوحي ما قصدتَ وأحببتَ نزوله ، ولا تقنط أيضاً ؛ إذ الكل بيده مرهونُ بوقتٍ ، ولا تضطرب من استهزاء الكفرة وسخريتهم ، وكيف اضطربت { هَلْ تَعْلَمُ } وتسمع { لَهُ سَمِيّاً } [ مريم : 65 ] مثلاً مسمىً بالأله المستحق للتوجه والعبودية لإنجاح المطلوب سواه حتى ترجع إليه ، فلكَ العبادة والاصطبار وترك الاضطراب والاستعجال ، وتفويض جميع الأمور إلى الكبير المتعال . { وَ } من غاية الجهل ونهاية الغفل عن ربوبيته { يَقُولُ ٱلإِنسَانُ } المجبول على النسيان والكفران بنعم الله وإنكار قدرته على إعادت المعدوم : { أَءِذَا مَا مِتُّ } وصرتُ عظاماً ورفاتاً { لَسَوْفَ أُخْرَجُ } من الأرض { حَيّاً } [ مريم : 66 ] سوياً مُعاداً ؟ ! كلا وحاشا هذا محالٌ باطلٌ ، وضلالٌ ظاهرٌ . { أَ } ينكر المنكر املطرُّ على قدرتنا ، ويصرُّ على الإنكار { وَلاَ يَذْكُرُ ٱلإِنسَٰنُ } المكابر المعاند { أَنَّا خَلَقْنَاهُ } وأبدعناه { مِن قَبْلُ وَ } الحالُ أنه { لَمْ يَكُ شَيْئاً } [ مريم : 67 ] أي : مما يطلق عليه الشيء ، ولا مسبوقُ بشيءٍ ، فقدرنا على إيجاده وإظهاره من العدم الصرْف ، ولِمَ لَمْ نقدر على إعادته بعد سبق أجزائه ، والإعادةُ والإبداءُ وإن كانا عندنا على السواء ، إلا أن الإعادة بالنسبة إلى فهمهم أسهل وأيسر من الإبداء والإبداع لا عن شيءٍ . { فَوَرَبِّكَ } الذي هو أعظم الأسماء الإلهية وأشملها وبعزته وجلاله { لَنَحْشُرَنَّهُمْ } أولئك الضالين { وَٱلشَّيَاطِينَ } المضلين لهم معهم ، منخرطين في سلسلتهم { ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ } مقيدين مغلولين { حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً } [ مريم : 68 ] باركين على الركب ، قائمين على أطراف الأصابع بلا تمكنٍ لهم واطمئنانٍ مثل الجاني الخائف عند الحاكم القاهر القادر على أنواع الانتقام . { ثُمَّ } بعد حشرهم وإحضارهم على النار { لَنَنزِعَنَّ } أي : ننتخبن ونخرجن { مِن كُلِّ شِيعَةٍ } أي : فرقةٍ شاعت منهم موجبات العذاب والنكال { أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ } المفيض لهم أنواعَ الخيرات والبركات { عِتِيّاً } [ مريم : 69 ] جراءةً على العصيان له وعلى ترك أوامره وارتكاب نواهيه ، ليطرح أولاً على مقر النار ، ثم الأمثل فالأمثل إلى انطراح الكل فيها على تفاوت طبقاتهم ودرجاتهم في موجباتها قوةً وضعفاً . { ثُمَّ } بعد انتزاعها وانتخابنا { لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِٱلَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ } وأحق { بِهَا } أي : بدخول النار { صِلِيّاً } [ مريم : 70 ] أي : دخولاً أولياً سابقاً على اكل ، وهم الرؤساء الضالون المضلون ؛ إذ يضاعف عذابهم لضلالهم وإضلالهم . ثم قال سبحانه مخاطباً لبني آدم بأجمعهم : لا تغتروا بدنياكم ولذاتها وشهواتها ، { وَ } اعلموا { إِن مِّنكُمْ } أي : ما منكم أيها المتلذذون بزخرفة الدنيا { إِلاَّ وَارِدُهَا } أي : ورادُ النار وواقعُها ، ذاق كلُ منكم من عذابها مقدارَ ما يتلذذ من الدنيا . أمَّا المؤمنون المطيعون المتقون الذين يقنعون في الدنيا بسدِّ جوعةٍ ولبسِ خشنٍ وكنٍ ضروري ، فيمرون عليها وهي خادمةً عبرة لهم منها وشكراً لنعمه النجاة عنها . وأمَّا المؤمنون العاصون التائبون ، فيذوقون من عذابها مقدار تلذذهم بالمعاصي ، ثم يخرجون على مقتضى عدله سبحانه . وأمَّا أصحاب الكبائر من المؤمنين الخارجين من الدنيا عليها بلا توبةٍ ، وعموم الكفرة والمشركين ، فه الواردون المقصرون على الورود فيها إلا أن المؤمنين تلحقهم الشفاعة . وأمَّا الكفرة لهم الخالدون المخلدون لا نجاة لهم منها أصلاً . ولا تتردوا أيها السامعون ولا تشكّوا في المذكور ؛ إذ { كَانَ } ورودكم وعرض النار عليكم من جملة الأحكام المبرمة الإلهية التي وجب { عَلَىٰ رَبِّكَ } يا أكمل الرسل وجوباً { حَتْماً مَّقْضِيّاً } [ مريم : 71 ] محققاً بلا شبهةٍ و تخلفٍ اوجبها سبحانه على نفسه لِحِكَمٍ ومصالحَ خص سبحانه في سترها ولم يفش على أحدٍ . { ثُمَّ } ثم الورود والوصول { نُنَجِّي } ونخلص { ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } عن محارمنا في النشأة الأولى اتقاءً من سخطنا وطلباً لمرضاتنا { وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ } الخارجين عن مقتضى أوامرنا ونواهينا خالدين { فِيهَا جِثِيّاً } [ مريم : 72 ] لا يمكنهم الخروج والتجاوز عنها أصلاً ، بل صاروا مزدحمين فيها مضيَّقين معذَّبين بأنواع العذاب أبد الآباد . { وَ } كيف لا يخلدون في النار ، وهم من كمال غيّهم وضلالهم ونهاية غفلتهم وقسوتهم { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ } في نشأة الاختيار { آيَاتُنَا } الدالةُ على تحيدنا وكمالِ قدرتنا على الإنعام والانتقام مع كونها { بَيِّنَٰتٍ } واضحاتٍ في الإعجاز بلا ريبٍ وترددٍ { قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بعدما عجزوا عن معارضتها وأفحموا على المقابلة معها ، متشبثين بما عندهم من المال و الجاه والثروة والرئاسة ، مفتخرين بها قائلين على سبيل التهكم { لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ } أي : أنحن الأغنياء المتلذذون بأنواع اللذات المتمكنون بجميع المرادات والشهوات ، أم أنتم أيها الفقراء الضعفاء المحتاجون بما تقتاتون في يومكم هذا ؟ ! { خَيْرٌ مَّقَاماً } أي : مرتبةً ومكاناً عند الله { وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } [ مريم : 73 ] مجلساً ومنزلاً عنده ، ولولا أنا أفضل وأخير منكم عند الله ، لما أعطانا ما أعطانا ولما منع عنكم ما منع . ثم لما افتخروا وتفضلوا على المؤمنين بما عندهم من حطام الدنيا وزخرفتها ، ردَّ عليهم وهدَّدهم على الوجه الأبلغ الأتم ، فقال على سبيل العبرة : { وَكَمْ } أي : كثيراً { أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ } في الأزمنة الماضية { مِّن } أهل { قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ } وأكثر من هؤلاء المفتخرين المعاندين { أَثَاثاً } أي : من جهة الأمتعة الدنيوية ، وما يترتب عليها من الجاه والثروة والكبر والخيلاء { وَ } أحسن { رِءْياً } [ مريم : 74 ] أي : زينةً وبهاءً . ثم لما لم يتذكروا بالآيات والنذر ، ولم يتفطنوا منها إلى توحيد الحق وصفائه ، ولم يشكروا نِعَمَه ، بل أصروا واستكبروا بما عندهم من المزخرفات الفانية ، فهلكوا واستؤصلوا { قُلْ } لهم يا أكمل الرسل نيابةً عنا كلاماً ناشئاً عن محض الحكمة : { مَن كَانَ } منغمساً منهمكاً { فِي ٱلضَّلَـٰلَةِ } مجبولاً عليها { فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ } وليمهله { مَدّاً } مهلاً طويلاً ، وليمتعهم تمتيعاً كثيراً ؛ أي : رغداً واسعاً { حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } على ألسنة الرسل والكتب { إِمَّا ٱلعَذَابَ } العاجل لهم في النشأة الأولى بأن غلب المسلمون عليه ، فقتلوهم وأسروهم ، وضربوا الجزي عليهم مهانين صاغرين { وَإِمَّا } تأتيهم { ٱلسَّاعَةَ } بغتةً { فَسَيَعْلَمُونَ } إذاً بالعيان والمشاهدة { مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً } ومقاماً عند الله { وَأَضْعَفُ جُنداً } [ مريم : 75 ] أو أقلُّ ناصراً ومعيناً . { وَيَزِيدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱهْتَدَواْ هُدًى وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً } بعدما صار مَالُ الكفار وبالاً عليهم ومنالُهم نكالاً لهم { } الهادي لعباده المؤمنين { } إلى زلال عرفانه وتوحيده { } هدايةً ورشاداً باقياً أزلاً وأبداً بدل ما نقص عنهم من حطام الدنيا الفانية ومتاعها الزائلة الذاهبة { } المقربة إلى الله ، المستتبعة لأنواع الفضل والثواب { } يا أكمل الرسل { } عائدةً وفائدةً { } [ مريم : 76 ] أي : منقلباً ومآباً ؛ لأن مآل الأموال والجاه والثروة إلى الحسرة والخسران ومآل العبادات إلى الجنة والغفران .