Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 122-125)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم لما خاطب سبحانه بني إسرائيل أولاً بإيفاء العهد الذي هو شعار الإيمان ، وما يتعلق بإيفاء العهد من الرجوع إليه ، والإيمان بكتبه ورسله وعدم المبادرة إلى الفكر ، وعدم استبدال آيات الله الدالة على ذاته علماً وعيناً وحقاً بالمزخرفات الفانية التي لا مداد لها أصلاً ، وعدم لبس الحق الظاهر المكشوف المحقق بالباطل الموهوم المعدوم ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة المنبئين من التوجه الفطري ، والرجوع الحقيقي الأصلي ، الركوع والخشوع على وجه التذلل والانكسار ، إلى أن يصل إلى الفناء في ذاته بل إلى فناء الفناء لينعكس البقاء . ثم عبر سبحانه تعبيراً فوق تعبيرٍ على الناسين نفوسهم في الغفلة بلا توجهٍ ورجوعٍ ، ثم أمر خلص عباده باستعانة الصبر المورث للتمكين ، والصلاة المشعر بالتوجه التام المسقط لجميع الآثام ، هذا لتصفية ذواتهم . ثم خاطبهم سبحانه ثانياً وأوصاهم بشكر نعم تفضيلهم وتكريمهم على بني نوعهم بأنواع الكرامات الدينية والدنيوية . ثم حذرهم وخوفهم عن يوم الجزاء على وجه المبالغة والتأكيد ؛ لتصفية أوصافهم في معاشهم في النشأة الأولى . ثم لما ذكر سبحانه كفرانهم وطغيانهم وعدم انقيادهم بالكتب والرسل ، وتكذيبهم وقتلهم وخبث طينتهم ودناءة طبعهم ، وقساوة قلبهم وشدة عداوتهم مع المؤمنين ، وقبح صنيعهم مع الأنبياء الماضين كرر خطابه سبحانه إليهم ثالثاً بما سبق ثانياً ، مبالغةً وتأكيداً وتلطفاً وإمهالاً لهم ؛ كي يتنبهوا ، ومع ذلك لم يتنبهوا لخبث طينتهم ، فقال : { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ } المعرضين عني بأنواع الإعراضات ، والمعترضين لآيأتي بأصناف الاعتراضات مضى ما مضى { ٱذْكُرُواْ } واشكروا { نِعْمَتِيَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } بفضلي وإحساني مع عدم شكركم وكفرانكم { وَ } خصوصاً اذكروا من النعم نعمة الجاه والتفضيل على جميع البرايا ؛ إذ { أَنِّي } بحولي وطولي { فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } [ البقرة : 122 ] من بني نوعكم ، وامتثلوا أمري ولا تجاوزوا عن حكمي ، واحذروا عن قهري وانتقامي . { وَٱتَّقُواْ يَوْماً } وصفه أنه { لاَّ تَجْزِي } لا تحمل { نَفْسٌ } مطيعة { عَن نَّفْسٍ } عاصيةٍ { شَيْئاً } قليلاً من اوزارها { وَ } مع ذلك { لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ } فدية حتى تتخلص بها { وَ } أيضاً { لاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ } من شفيعٍ حميمٍ حتى يخفف عذابها لأجلها { } وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [ البقرة : 123 ] بغيرهم في تحمل العذاب ، بل ما يحمل رزاياهم إلا مطاياهم ، ومع هذه المبالغة والتأكيد قليلاً منهم يؤمنون بخلاف الملة الحنيفية البيضاء الجليلة ، فإنهم بأجمعهم يرجى منهم الإيمان بوحدانية الله إن أقاموا الصلاة إليه مخلصين إلا المصلين الذين هم في صلاتهم ساهون بما يلهيهم محبة المال والجاه عصمنا من ذلك . ثم لما ذكر سبحانه قصة بني إسرائيل وإنعامه عليهم بأنواع النعم ، وكفرانهم لنعمه من خبث طينتهم ، أراد أن يذكر طيب طينة الملة الجليلة وصفاء عقائدهم واصطبارهم ، وتحملهم على الاختبارات والابتلاءات الإلهية ، فقال : { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ } اي : واذكر يا أكمل الرسل وقت ابتلاء أبيك { إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ } الذي ابتلاه واختبر خليله بأنواع البلاء من النار والمنجنيق وذبح الولد وإجلاءٍ من الوطن وغير ذلك من البليات النازلة عليه { بِكَلِمَاتٍ } صادرة من ربه حين أراد اختباره { فَأَتَمَّهُنَّ } على الوجه الذي صدر قصورٍ ولا فتورٍ تتميماً لمرتبة الخلة والخلافة . ثم لما اختبر سبحانه خلة خليله بأنواع البلاء أظهر خلته له بأنواع العطاء حيث { قَالَ } سبحانه : { إِنِّي } من غاية محبتي وخلتي معك أيها الخليل الجليل { جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ } الناسين التوحه والرجوع إلي { إِمَاماً } مقتدى لهم ، هداياً يهديهم إلى طريق التوحيد ، لما رأى إبراهيم عليه السلام انبساط ربه معه وإفضاله عليه وإظهاره الخلة له { قَالَ } : { وَ } اجعل يا ربي { مِن ذُرِّيَّتِي } أيضاً أئتمةً إلى يوم القيامة { قَالَ } سبحانه تلطفاً له وامتناناً عليه : ومن ذريتك أيضاً الصالحين منهم لا الفاسقين ؛ إذ { لاَ يَنَالُ عَهْدِي } الذي هو نيابتي وخلافتي { ٱلظَّالِمِينَ } [ البقرة : 124 ] المتجاوزين عن حدودي وعهودي . { وَ } بعدما جعلناه إماماً هداياً إلى طريق الحق هيأنا له طريق الاهتداء { إِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ } أي : الكعبة المعدة للتوجه إلينا بترك المألوفات وقطع التعلقات من الأهل والمال والوطن ، والاجتناب عن التصرفات المانعة عن التوجه الحقيقي من الرفت والفسوق والجدال والقتل ، وغير ذلك من الأمور المتعلقة للحياة المستعارة { مَثَابَةً } موضع ثواب { لِّلنَّاسِ } ليتقربوا إلينا ويتوجهوا نحونا { وَأَمْناً } من جميع المخافات الدينية إذا كانت الزيارة على نية الإخلاص { وَ } بعدما جعلنا البيت مثابة للناس قلنا للزائرين لها والطائفين حولها : { ٱتَّخِذُواْ } أيها الزوار { مِن مَّقَامِ } خليلنا { إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } موضع ميل وتوجه ؛ اقتداءً له صلوات الرحمن عليه { وَ } بعدما أمرنا الزوار بما أمرنا { عَهِدْنَآ } وصينا { إِلَىٰ } خليلنا { إِبْرَاهِيمَ وَ } ذبيحنا { إِسْمَاعِيلَ } ابنه { أَن طَهِّرَا } بالمظاهرة { بَيْتِيَ } المعدة للطهارة الحقيقة عن جميع الشواغل { لِلطَّائِفِينَ } الذين قصدوا الميل إلى جنابنا ببذل المهج { وَٱلْعَاكِفِينَ } القائمين المقيمن ببابنا رجاء أن ينكشف لهم أسرار التكاليف التي كلفوا بها { وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } [ البقرة : 125 ] أي : الراكعين الساجدين في فنائنا تذللاً وانكساراً حتى يتحققوا بمقام العبودية .