Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 33-37)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ومتى اعترفوا بذنوبهم واعتذروا عن قصورهم وإجرامهم قبل الله عنهم عذرهم وتوبتهم ، ثم أظهر عليهم الحكمة المقتضية لخلافة آدم - صلوات الله عليه - جبراً لانكسارهم ورفعاً لحجابهم وامتناناً عليهم حيث : { قَالَ يَآءَادَمُ } المستجمع لجميع الأسماء المتخالفة { أَنبِئْهُمْ } عن خبرةٍ وحضورٍ { بِأَسْمَآئِهِمْ } المركوزة في هويتك عن هؤلاء المسميات المسببات المعروضة عليك المعبرة عنها بالعالم ، ثم لما سمع آدم نداء ربه بادر إلى الجواب بمقتضى الوحي والإلهام الإلهي { فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ } بتوفيق الله وإلهامه ووحيه { بِأَسْمَآئِهِمْ } على التفصيل الذي أودعه الحق في ذاته ؛ لأن المرأة تظهر جميع ما في الرائي ، فلما سمعوا منه التفصيل واستخرجوا بإنبائه ، وندموا عما صدر عنهم في حقه ، وزادوا الاستحياء من الله وتوجهوا نحوه ساكتين نادمين حتى لطف معهم وأدركتهم الرحمة الواسعة ، تكلم سبحانه معهم وخاطبهم مذكراً لهم عما جرى بينه وبينهم ، ومستفهماً لهم على وجه التأديب ؛ لئلا يصدر عنهم أمثاله ولئلا يغتروا بعلومهم ومعامالاتهم ، ولا يستحقروا مظاهر الحق ، ولا ينظروا إليها بعين الاحتقار بل بنظر الاعتبار ، ولا يتوهم إخفاء شيء من علم الله المحيط بالأشياء إحاطة حضور حيث { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ } إجمالاً أولاً : { إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ } أي : ما غاب عنهم في علم السماوات التي ادعيتم العلم بتفاصيل أحوالها { وَ } غيب { ٱلأَرْضِ } التي قلتم فيها كلاماً على التخمين وبحسب الظاهر { وَأَعْلَمُ } أيضاً { مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [ البقرة : 33 ] تظهرون في حق آدم باللسان ودعوى الاستقلال فيها والانحصار عليها . ثم لما اعترفوا بذنوبهم وقصورهم ، وتضرعوا إلى الله نادمين تائبين عن اجترائهم ومجادلتهم معه مستحيين عنه وعمن استخلفه لنفسه - يعني آدم - بنسبة المكروهات إليه ، خائبين عما نووا في نفوسهم من الأولوية في الاستحقاق ، تقبل الله عذرهم وأسقط حقه عنهم ، ثم أمر بسجودهم لمن استخلفه ؛ استجلالاً معه وإيفاء لحقه ليسقط أيضاً عن ذمتهم ، فقال : { وَإِذْ قُلْنَا } أي : واذكر يا أكمل الرسل وقت قولنا { لِلْمَلَٰئِكَةِ } النادمين عن الجراءة التي صدرت عنهم { ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ } تذللوا وتواضعوا تكريماً لآدم وامتثالاً لأمرنا { فَسَجَدُواْ } مجتمعين متذللين واضعين جباههم على تراب المذلة والندامة { إِلاَّ إِبْلِيسَ } منهم { أَبَىٰ } وامتنع عن السجود { وَٱسْتَكْبَرَ } عن الانقياد له ، وأصر على ما هو عليه من الجحود { وَكَانَ } بعدم ا لامتثال الأمر الوجوبي { مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ } [ البقرة : 34 ] المطرودين عن ساحة عز الحضور . والسر في استثنائه تعالى عن هذا الحكم وعدم توفيقه إياه وعدم اقتداره على السجود ، أن يظهر سر الحضور والإظهار والربوبية والعبودية ، وسر الإيمان والكفر والجنة والنار وجميع القيودات الشرعية والتكاليف الإلهية ؛ إذ نسبته يظهر الاثنينية ويتعدد الطرق وتتفاوت الآراء والمقالات وتبين المخالفات والمنازعات ، ويظهر الباطل ويستر الحق ، وهو الرقيب المحافظ لآدابه والحاجب المعتكف ببابه ، حتى لا تكون شرعية لكل وارد ، أو يتوجه إليه واحد بعد واحد ، غيره على الله وحمية لنفسه ، ولهذا تمنى كثير من المحققين مرتبته . ومن غيرته على ربه إلهاؤهم واغترارهم بالمستلذات والمزخرفات التي مالت إليها نفوسهم بطبعها يشغلهم ويلهيهم بها عن التوجيه إلى جنابه والعكوف ببابه ، والسر في طرده ولعنه وإبعاده وبكفره تحذيرهم عن الانقياد والاقتداء على أبلغ وجه وآكده ، وتمرين لعداوته ورقابته معهم في نفوسهم ؛ لئلا يغفلوا عنه ، ومع ذلك لم يتركوا متابعته ولم يجتنبوا من إقطاعه الملهية ، نعوذ بالله من شرور أنفسنا . { وَ } وبعد ما خلقنا آدم في الأرض خليفة وأنزلنا عنه قوادح القاحدين ، وأمرمنا جميع خصمائه بسجوده وتكريمه ، وامتثلوا بالمأمور جميعاً إلا إبليس ، تركه للحكمة المذكورة آنفاً ولئلا يتكبر آدم ويتجه بسببه انقياد جميعهم كما تجبر كثير من أبنائه في الأرض بانقياد الشرذمة القليلة { قُلْنَا } له على سبيل الشفقة والنصيحة : { يَآءَادَمُ } المستخلف المختار ، لازم العبودية إنما تحصل بامتثال أوامرنا واجتناب نواهينا ، ومتى قبلت بحمل الامتثال والاجتناب { ٱسْكُنْ أَنْتَ } أيها الخليفة أصالة { وَزَوْجُكَ } تبعاً لك { ٱلْجَنَّةَ } التي هي دار السرور ومنزل الفراغ والحضور ، ومقام الأنس من الرب الغفور { وَ } إذا سكنتما فيها { كُلاَ } تمتعاً { مِنْهَا } من جميع محظوظاتها ومستلذاتها الروحانية والجسمانية { رَغَداً } واسعاً بلا مقدار وعدد { حَيْثُ شِئْتُمَا } بلا مزاحمة أحد { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ } المخصوصة المعينة حتى لا تخرجا من رق العبودية وإن قربتما { فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّٰلِمِينَ } [ البقرة : 35 ] الخارجين عن حدو الله بارتكاب المنهي . ولما استشعر إبليس التوصية والمعاهدة المذكورة المنبئة عن كمال العناية الإلهية بالنسبة إلى آدم ، بادر إلى دفعها ورفضها ، فوسوس لهما بأن ألقى في قلبهما الدغدغة في تخصيص هذه الشجرة المعنية بالنهي وأنساهما المعاهدة المذكورة في العبودية ، وبالجملة : { فَأَزَلَّهُمَا } ألجأهما إلى ارتكاب الزلة بوسوسة { ٱلشَّيْطَانُ عَنْهَا } العدو لهما والرقيب معهما فتنادوا عنها عن الشجرة المنهية { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا } أي : من الحضور الذي { كَانَا فِيهِ } أي : في دار السرور { وَ } بعدما ظهر زلتهما { قُلْنَا } لهما ولناصحهما : { ٱهْبِطُواْ } من دار السرور إلى دار الغرور ، ومن دار الكرامة إلى دار الابتلاء والملائمة ، وعيشوا فيها مع النزاع والخصومة ؛ إذ { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } ينتهز الفرصة لمقته { وَ } بعد هبوطمم { لَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ } التي هي محل التفرقة وموطن الفتن والمحن { مُسْتَقَرٌّ } موضع قرار { وَمَتَاعٌ } استمتاع لمزخرفاتها ومستلذاتها الغير القارة التي ألهاكم الشيطان بها عن النعيم الدائم { إِلَىٰ حِينٍ } [ البقرة : 36 ] قيام الساعة التي هي الطامة الكبرى . ثم لما لم يكن زلة آدم من نفسه ومن مقتضى طبعه بل بسوسوة عدوه ، أشفق عليه وتوجه نحوه وتطلف معه { فَتَلَقَّىٰ } استفاد { ءَادَمُ } المذنب العاصي { مِن رَّبِّهِ } المستخلف المستقبل عليه { كَلِمَٰتٍ } مشتملات على الرجوع والإنانية عما صدر عنه من زلة هي قوله : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] ولما تلقى آدم من ربه هذه الكلمات واستغفر بها ، ورجع عما صدر { فَتَابَ } الله { عَلَيْهِ } أي : قبل توبته ورحم عليه { إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ } الرجاع للمذنبين المنهمكين في العصيان بالإنابة إليه عن ظهر الجنان { ٱلرَّحِيمُ } [ البقرة : 37 ] لهم عما صدر عنهم من المعاصي والآثام بلا معاتبة ولا انتقام .