Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 24, Ayat: 35-40)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وكيف لا تنزجرون عن قهر الله أيها الغافلون ، ولا تخافون عن بشطه أيها الضالون ، أما تستحيون منه سبحانه مع حضوره وشهوده في جميع الأماكن ، وظهور نوره في عموم الآفاق والأنفس غيباً وشهادة ، ظاهراً وباطناً ، أزلاً وأبداً ، أولاً وآخراً ، صورةً ومعنىً . وكيف تتركون حدوده وتخرجون عن مقتضى أوامره ونواهيه في كتبه المنزلة على رسله أيها الجاهلون المسرفونن ؛ إذ { ٱللَّهُ } المتجلي بأسمائه الحسنى وصفاته العليا { نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي : مظهرهما وموجدهما ، وموجدُ ما ظهر بينهما وفيهما وعليهما من كتم العدم ، بلا سبق مادةٍ ومدةٍ بامتداد أظلال أسمائه وآثار صفاته عليهما { مَثَلُ نُورِهِ } أي : ظهور أنواع وجوده من هياكل الهويات وشباك العكوس والتعينات { كَمِشْكَاةٍ } وهي كوةُ تُوضع فيه القناديل المسرجة ، وهي مثال الأشكال والمظاهر والتعينات المنعكسة من أشعة الأسماء والصفات الإلهية المتشعشعة المتجلية بالتجليات الحبية على مقتضى الذات { فِيهَا مِصْبَاحٌ } وهي مثال نور الوجود الإلهي ، المضيء بنفسه وذاته ، ومن كمال شروقه وبروقه ولمعانه تخطف الأبصار وتكمل المدارك والأنظار ، لذلك احتجب { ٱلْمِصْبَاحُ } المذكمور أولاً { فِي زُجَاجَةٍ } صافيةٍ عن كدر التعينات ورين التعلقات ، وهي مثال الأسماء والصفات المنبسطة أظلالها على صفائح الأكوان . ومن كمال اللطافة والصفاء ، هذه { ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } في غاية الإضاءة والإنارة ، يتلألأ ويتشعشع بصفاته الذاتية ولطافته الجبلية ؛ لأنه { يُوقَدُ } ويسرج بدهن إليهي متخذ { مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ } كثيرة الخير والبركة لمن استظل تحتها ، وهي شجرة الوجود الممتدة أظلالها على صفائح عموم ما ظهر وبطن من المظاهر والموجودات الغير المحصورة { زَيْتُونَةٍ } كثيرة النفع والخير ؛ إذ الوجود خيرُ محض ونفعُ صرفُ لا شرَّ يه ولا ضررَ أصلاً { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } أي : معتدلةُ في نفسها ، خارجةُ عن الجهات كلَّها غيرُ محاطةٍ بها . ومن كمال صفائها ولطافتها { يَكَادُ زَيْتُهَا } بإضاءتها الذاتية ، وإشراقها العينية { يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } هي التجلي الحبي الشوقي ، والمحبة الخالصة والعشق الإلهي . وبالجملة : نور الوجود الإلهي { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } لا يدركه ، ولا يتميز ، ولا يطلع عليه أحدُ من مظاهره ومصنوعاته ، بلا توفيقٍ منه سبحانه وجذبٍ من جانبه ، بل { يَهْدِي ٱللَّهُ } الهادي لعباده إلى صفاء توحيده { لِنُورِهِ } أي : ضياءِ وجودِه وسعة رحمته وَجُوده { مَن يَشَآءُ } من عباده من جذبه الحق نحو جنابه ، ووفَّقه الوصول إلى فناء بابه . { وَ } للتنبيه إلى هذا المقام والإشارة إلى هذا المرام ، و { يَضْرِبُ ٱللَّهُ } المطلع لاستعدادات عباده { ٱلأَمْثَالَ } المنبهة والأشياء المثيرة { لِلنَّاسِ } المجبولين على فطرة التوحيد لهم ؛ لعلهم يتفطنون على ما جبلوا لأجله ويتنبهوا على مبدئهم ومَعادهم { وَٱللَّهُ } المحيط بالآفاق والأنفس إحاطة حضورٍ وشهودٍ { بِكُلِّ شَيْءٍ } مما جرى في مملكة عموم المظاهر والمصنوعات { عَلَيِمٌ } [ النور : 35 ] لا يغيب عن عمله شيء . ولهذا التفطن والتذكر يتوجه المخلصون المنجذبون نحو الحق { فِي بُيُوتٍ } معدةٍ للتوجه مع أنه { أَذِنَ ٱللَّهُ } الهادي لعباده إلى توحيده { أَن تُرْفَعَ } بناؤها وتُعظَّم غاية التعظيم ، { وَيُذْكَرَ فِيهَا } أي : في تلك البيوت والمساجد { ٱسْمُهُ } الذي هو كلمة توحيده وتقدسيه ، ولهذا { يُسَبِّحُ لَهُ } أي : الله طلباً لمرضاته لا لغرضٍ دنيويٍ أو أخرويٍ { فِيهَا } أي : في تلك البيوت المذكورة دائماً { بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ } [ النور : 36 ] أي : في جميع آناء الأيام والليالي . { رِجَالٌ } كمَّل مخلصون منجذبون نحو الحق ، مشمرون ذيل هممهم لسلوك طريق الفناء ، منقطعون عن الدنيا وما فيها ؛ بحيث { لاَّ تُلْهِيهِمْ } وتشغلهم { تِجَارَةٌ } وأرباح متعلقة بالأمور الدنيوية أو الأخروية { وَلاَ بَيْعٌ } أيضاً كذلك { عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } والتوجه نحو جنابه ، والعكوف على بابه { وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ } ودوام الميل والمناجاة معه { وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَـاةِ } إي : إنفاقُ ما في أيديهم خالصاً لطلب المرضاة ، ومع ذلك { يَخَافُونَ يَوْماً } أي : عذاب يوم القيامة ، وما لحق فيها من النكال ؛ إذ من شدة هولها { تَتَقَلَّبُ } أي : تتلقلق وتضطرب { فِيهِ ٱلْقُلُوبُ } تدهش فيه { وَٱلأَبْصَارُ } [ النور : 37 ] . كذل ذلك { لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ } المجازي لما صرد عنهم { أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } بأحسن الجزاء { وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ } امتناناً عليهم { وَٱللَّهُ } المتفضل لخواص عباده { يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } منهم من الرزق المعنوي الحقيقي { بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ النور : 38 ] أي : بلا مقابلةِ عملٍ منهم ، ومعاضوة إحسانٍ من جانبهم ، بل من محض الفضل والجود . ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } ستروا الحق ، وأنكروا عليه ، وأظهروا الباطل ظلماً وزوراً ، ووجوه عناداً ومكابرةً لذلك صارت { أَعْمَالُهُمْ } التي خيلوها صالحةً مستجلبةً لأنواع النفع في يوم الجزاء على عكس أعمال المؤمنين { كَسَرَابٍ } أي : كمثلٍ سرابٍ يلمع ويبرق { بِقِيعَةٍ } أي : باديةٍ وصحراءٍ { يَحْسَبُهُ } ويظنه { ٱلظَّمْآنُ } من بعيد { مَآءً } مُسكناً للعطش ، مبرِّداً للأكباد . فلما رآه سارع إليه ، وسعى نحوه سريعاً { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ } بعد تعبٍ كثيرٍ وعناسْ مفرطٍ مؤملاً الوصول إلى الماء { لَمْ يَجِدْهُ } ماءً بل لم يجد { شَيْئاً } آخرَ متأصلاً في الوجود سوى العكوس التي تتراءى كالماء في البريق واللمعان من تقلب الحدقة ، وتشتت البال واضطراب الحواس باستيلاء العطش المفرط وحرارة الأكباد ، { وَ } بعدما آيس من نفع أعماله { وَجَدَ ٱللَّهَ } الرقيبَ عليه في جميع أحواله ، محاسباً إياه عما صدر عنه { عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ } على الوجه الأقسط الأعدل بلا زيادةٍ ولا نقصاٍ { وَٱللَّهُ } المطلعُ على جميع ما جرى على عباه في جميع شئوهم وتطوراتهم { سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [ النور : 39 ] يحاسبهم ، ويجازيهم على مقتضى علمه وخبرته ، بلا فوت شيءٍ مما صدر عنهم عدلاً منه سبحانه . { أَوْ } مثل أعمال الكفرة في عدم النفع والخير { كَظُلُمَاتٍ } أي : كمثل أصحاب ظلمات الليل الواقعة لهم { فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ } أي : عميقٍ غائرٍ منسوبٍ إلى اللجّ ، وهو معظم الماء { يَغْشَاهُ } أي : يغطي البحر ويعلو عليه { مَوْجٌ } هائلُ { مِّن فَوْقِهِ } أي : فوق الموج الأول { مَوْجٌ } آخرُ أهولُ منه هكذا ؛ أي : أمواجُ متراكمةُ مترادفةُ بعضها فوق بعض على التوالي والتتالي مع أنه { مِّن فَوْقِهِ } أي : فوق الموج المظلم { سَحَابٌ } كثيفُ أظلمُ منه . وبالجملة : تلك الأمواج والسحب { ظُلُمَاتٌ } متراكمة مترادفة { بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } بحيث { إِذَآ أَخْرَجَ } من قوع فيها { يَدَهُ } حذاء بصره اختباراً لنظره { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } أي : لم يقرب أن يراها بالقوة فكيف بالفعل ؟ ! هكذا أعمال الكفرة المتوغلين في بحر الغفلة والضلال ، والمغشّاة بالأمواج المتراكمة من الظلم والطغيان والغيّ والعدوان ، من فوقه السحب الكثيفة والحجب الغليظة من الجهل بالله ، والتعامي عن مطالعة آياته الدالة على توحيده واتصافه بالأوصاف الذاتية ، وملاحظة آثاره البديعة وصنائعه العجيبة الغريبة . وهم من غاية انهماكهم في ظلمات غفلاتهم وجهالاتهم ، وكمال غيّهم وضلالهم : إذا أمعنوا نظرهم إلى مشاهدة ما في نفوسهم من غرائب صنع الله لم يقربوا أن يكونوا مترصدين للوقوف عليها ، فكيف الشهود والاطلاع بها ؟ ! { وَ } بالجملة : { مَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ } الهادي لعباده إلى زلال توحيده { لَهُ نُوراً } من جذبةٍ وتوفيقٍ يهدي به التائهين إلى مقصد توحيده { فَمَا لَهُ } من نفسه وبمجرد كسبه وسعيه { مِن نُورٍ } [ النور : 40 ] يرشده إليه سبحانه ، ويوصله إلى فضاء توحيده . هب لنا منك نوراً نهتدي به إلى ما جُبلنا لأجله بفضلك وجودنا يا ذا الطول العظيم .