Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 25, Ayat: 43-46)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثمَّ قال سبحانه على التوبيخ لعامة المشركين المتخذين غير الله إلهاً ، سواء كانوا مشركين بالشرك الجلي أو الخفي ، المسندين الأفعال والحوادث الكائنة في عالم الكون والفساد إلى الأسباب والوسائل العادية على مقتضى هوية نفوسهم ؛ وذلك لجهلهم بالله وغفلتهم عن إحاطة علمه وقدرته ، وجميع أوصافه وأسمائه بجميع ما ظهر وبطن ، وكان ويكون : { أَرَأَيْتَ } أي : أخبرني يا أكمل الرسل إن كنت من أهل الخبرة والذكاء ، أتهدي وترشد إلى التوحيد { مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } أي : من اتخذ هواه ومشتهى قلبه إلهاً يعبده كعبادة الله ، قدَّم المفعول الثاني ؛ للغاية والاهتمام { أَفَأَنتَ } يا أكمل الرسل { تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً } [ الفرقان : 43 ] حفيظاً تحفظه عن متابعة هواه ومقتضى طبعه ، مع أنا جبلناه وأثبتناه في لوح قضائنا وحضرة علمنا أنه من الأشقياء المردودين ؟ ! . { أَمْ تَحْسَبُ } وتظن من كمال حرصك وشفقتك على إيمان هؤلاء الهلكى { أَنَّ أَكْثَرَهُمْ } أي : أكثر المشركين { يَسْمَعُونَ } كلمة التوحيد سمع قبول ورضاء { أَوْ يَعْقِلُونَ } ويفهمون معناه فهم عارف متدرب متدبر ؟ ! إلا من سبقت له العناية الأزلية والتوفيق ، بل { إِنْ هُمْ } أيك ما أكثرهم { إِلاَّ كَٱلأَنْعَامِ } يأكلون ويمشون ، وعن السمع والشعور معزولون { بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } [ الفرقان : 44 ] من الأنعام ؛ لأنهم مجبولون على المعرفة والتوحيد ، والأنعام ليست كذلك ، فهم أسوأ حالاً منها . فكيف لا يكونون أضل سبيلاً من الأنعام ؛ لأنهم مع استعدادهم وقابليتهم لقبول فيضان أنوار التوحيد ، ومعرفة كيفية سريان الوحدة الذاتية ، وامتداد أظلالها على هياكل الموجودات والمظاهر ، صاروا محرومين عنها وعن شهودها والاطلاع عليها ، غافلين عن لذاتها ، مع أنهم إنما جُبلوا ؛ لأن يدركوها ويشاهدوا عليها ، وينكشفوا بسرائرها ، ومع ذلك لا يجتهدون في شأنها ، بل لا يلتفتون أيضاً ، مع أنه سبحانه أشار إليها وصرَّح بها في كتابه العزيز ؛ إرشاداً لنبيه صلى الله عليه وسلم وتنبيهاً على من تبعه من المؤمنين ؛ ليتفطنوا منها إلى مبدئهم ومعادهم ، ويتصفوا بكمال المعرفة والتوحيد . فقال مخاطباً لحبيبه صلى الله عليه وسلم ؛ إذ أمثال هذه الخطابات لا يسع في سمع غيره صلى الله عليه وسلم : { أَلَمْ تَرَ } أيها المسترشد البصير ، والمستكشف الخبير { إِلَىٰ رَبِّكَ } أي : مربيك الذي رباك بأنواع الكمالات وأرفع الدرجات { كَيْفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ } أي : كيف بسط أظلال أوصافه وأسمائه ، وعكوس شئونه وتطوراته على مرايا الإعدام القابلة ، فيتراءى ؛ أي : حسب اقتضاء أسمائه الحسنى وصفاته العليا ما لا يتناهى من الصور العجيبة والهياكل الغريبة حتى يتوهم المحجوبون أنها موجودات حقيقة متأصلة الوجود ، مستقلة في الآثار المترتبة عليها . ثمَّ افترقوا ، فذهب قوم إلى أنها موجودات متأصلة مستقلة بأنفسها ، مستغنية عن فاعل خارجي يؤثر فيها ، وهم الدهريون الجاهلون ، القائلون بأن الطبيعة تكفي في تكوّن الأشياء ، وإذا وجدت الشرائط وارتفعت الموانع تكوَّن الشيء ألتة بلا احتياج إلى فاعل خارجي مؤثر في وجوده ، ولم يتفطنوا أولئك الحمقى أن هذه الصور باقية على عدماتها الأصلية ، ما شمت رائحة من الوجود سوى أن ظل الوجود انبسط عليها . وآخر إلى أنها موجودات حقيقية قديمات بأنواع لها صور ومواد قديمة محتاجة إلى فاعل خارجي مؤثر موجب بمقارنة الصور للمادة ، وهذا مذهب الحكماء ، وهؤلاء الهلكى القاصرو عن درك الحق أيضاً لم يتنبهوا ألاَّ قديم في الوجود إلا الله الواحد القهار للسوى والأغيار مطلقاً . وآخر إلى أنها موجودات حقيقية أبدعها الله تعالى من العدم بمقتضى علمه وقدرته وإرادته و اختياره بلا وجوب شيء عليه في إيجادها ، وبلا سبق مادة ومدة عليها ، وهذا مذهب جمهور المتكلمين ، وهؤلاء أيضاً لم يتنبهوا أن العدم لا يقبل الوجود أصلاً ، كما أن الوجود لا يقبل العدم أصلاً ؛ إذ بينهما تضاد حقيقي لا يتصف أحدهما بالآخر مطلقاً . ومنشأ توهم هؤلاء الفرق الثلاث اقتصار نظرهم على الصور المرئية ظاهراً وغفلتهم عن ذي الصورة التي هي عكوس وأظلال وآثار له ، ولو علموا ارتباط هذه الصور بذي الصورة ، وكوشفوا بوحدة الوجود ، وشهدوا ألاَّ موجود إلا الله الواحد القهار لجميع الأغيار لم يبقَ لهم شائبة شك في عدمية هذه الصورة المرئية ، كما لا شك لهم في عدمية الصور المرئية في المرايا والأظلال ، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له نور . { وَلَوْ شَآءَ } وأراد سبحانه عدم انبساط عكس وجوده وانبعاث العدم على صرافته ، ولم يجعل مرآة الكمالات وجوده ولم يلتفت إليها ، ولم ينحل عليها { لَجَعَلَهُ سَاكِناً } اي : جعل ظل وجوده مقبوضاً غير مبسوط ؛ لفني العالم دفعةً ألبتة { ثُمَّ } أوضحنا هذا المد والبسط بمثال واضح من جملة المحسوسات عنايةً منا لعبادنا بأن { جَعَلْنَا ٱلشَّمْسَ } في إضاءتها وإشراقها ، وانبساط نورها وشعاعها على ظلمة الليل المشابهة بالعدم { عَلَيْهِ } أي : على بسط الوجود على مرايا الأعدام { دَلِيلاً } [ الفرقان : 45 ] مثالاً موضحاً واضحاً لكيفية امتداد أظلال الوجود وانعكاسها من العدم ؛ وذلك أن الشمس إذا أخذت في الإشراق ، وبسطت على النور والآفاق ، استنار العالم بعدما كان مظلماً ، وإذا قبضت عاد على ظلمته الأصلية . { ثُمَّ } بعدما بسطنا ظل وجودنا على هياكل المظاهر والموجودات { قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا } دفعاً لتوهم الشركة المنافية لصرافة التوحيد ، وإن كان بحسب الظاهر ؛ إذ لا موجود حقيقة إلا الله الواحد القهار { قَبْضاً يَسِيراً } [ الفرقان : 46 ] سهلاً . فإن قدرنا له التغير والتجدد على تعاقب الأمثال ؛ ليدل على ألاَّ وجود لها لذاتها ؛ إذ لو كان لها وجود من نفسها لم يطرأ عليها التغير والانتقال ، فعلم من هذه التغيرات الواقعة في الأكوان ألاَّ وجود لها في الحقيقة بل لا وجود حقيقةً إلا للواجب الذي هو نفس الوجود .