Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 27, Ayat: 20-26)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثمَّ لمَّا سار سليمان - صلوات الرحمن عليه وسلام - ف يبعض أسفاره ، وكان الهدهد دائماً رائده ، وبريد عسكره ودليلهم على الماء عند الاحتياج ؛ إذ هو عالم به إلى حيث تعرفه تحت الأرض وتعين موضعه ، و كان يأمر سليمان عفاريت الجن ليحفروها ويخرجوا منها الماء لدى الحاجة . فاحتاج سليمان عليه السلام يوماً من الأيام إلى الماء ، ولم يكن الهدهد حاضراً عنده فغضب عليه { وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيْرَ } وتعرفه مفصلاً ؛ حتى يجده بينهم فلم يوجد مغاضباً عليه : { فَقَالَ } مغاضباً عليه : { مَالِيَ } أي : أي شيء عرض علي حتى صرت { لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ } بين الطيور ، أهو حاضر عندي ، مستور علي فلم أره { أَمْ كَانَ مِنَ ٱلْغَآئِبِينَ } [ النمل : 20 ] المتخلفين عن خدمتي ورفاقتي ؟ . فوالله لو وجدته { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً } إلى حيث آمر بنتف ريشه وحبسه في حر الشمس مع ضده في محبس ضيق { أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ } حداً ؛ ليعتبر منه سائر الخَدَمَة { أَوْ لَيَأْتِيَنِّي } وليقيمنَّ على الإثبات عذره { بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } [ النمل : 21 ] حجة واضحة ظاهرة الدلالة ، مقبولة من ذوي الأعذار عند أولي الأبصار والاعتبار . { فَمَكَثَ } الهدهد بعد تفقد سليمان وتهديده زماناً { غَيْرَ بَعِيدٍ } مديد متطاول ، ثمَّ حضر عنده بلا تراخٍ طويل { فَقَالَ } معتذراً لغيبته ومكثه : إنما مكثت وغبت عن خدمتك ؛ لأني { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } أنت يا سيدي ؛ يعني : تعلق إدراكي بمعلوم لم يتعلق به قبل لا علمي ولا علمك ، ولا علم أحد من جنودك { وَ } بعد وقوفي واطلاعي به { جِئْتُكَ مِن } بلاد قبيلة { سَبَإٍ } من نواحي المغرب ، وبمن ملك عليها { بِنَبَإٍ } وخبر { يَقِينٍ } [ النمل : 22 ] مطابق للواقع . قال سليمان مبتهجاً ، مزيلاً لغيظه وغضبه ، مستكشفاً عنه : وما الخبر ؟ قال الهدهد : { إِنِّي } بعدما وصلت إلى ديارهم بأقصر مدة { وَجَدتُّ } وصادفت { ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ } اسمها بلقيس بنت شراحيل ، من نسل يعرب بن قحطان ، وأمها جنية ؛ لأنه ما كان يرى التزويج من الإنس ، ولم يكن له ولد غيرها ؛ لذلك ورثت منه الملك فملكت { وَ } من كمال عظمتها وشوكتها { أُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } نفائسه وعجائبه ما لا يُعد ولا يُحصى { وَلَهَا } من جملة البدائع { عَرْشٌ عَظِيمٌ } [ النمل : 23 ] من جميع عروش أرباب الولاية والملك . قيل : كان ثمانين ذراعاً في ثمانين ، وارتفاعه ثلاثين أو ثمانين أيضاً ، وهو متخذ من الذهب والفضة ، مكلل بالدر والزمرد ، والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر ، وكانت قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر وزمرد ، وعليه سبعة بيوتات على كل بيت باب مغلق . { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ } ويعبدونها { مِن دُونِ ٱللَّهِ } المستحق للتذلل والعبادة { وَ } من غاية جهلهم بالله ، وغفلتهم عن كمال أوصافه وأسمائه الحسنى { زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } هذه وعبادتهم للشمس { فَصَدَّهُمْ } وصرفهم بتزيينه وتغريره { عَنِ ٱلسَّبِيلِ } السوي ، الموصل إلى توحيد الحق الحقيقي بالعبودية والتذلل { فَهُمْ } بسبب تضليل الشيطان وتغريره ، ورسوخهم على ما زُين لهم { لاَ يَهْتَدُونَ } [ النمل : 24 ] إلى التوحيد بمقتضى فطرتهم الأصلية وجبلتهم الحقيقية . فلا بدَّ لهم من مرشد كامل ، وهادٍ مشفق يهديهم إلى سواء السبيل ، مع أنهم من زمرة العقلاء المميِّزين بين الهداية والضلالة ، ولكنهم بانهماكهم في الغفلة والغرور ، زيَّن لهم الشيطان عبادة الشمس التي هي من جملة مظاهر الحق ، مقتصرين العبادة عليها ؛ لقصور نظرهم ، ولو نبههم منبه نبيه على توحيد الله واستقلاله سبحانه في جميع مظاهره ، لعل الله يوقظهم من منام الغفلة . بأن قال لهم منادياً إياهم : { أَلاَّ يَسْجُدُواْ } يعني : تنبهوا أيها الفاقدون قبلة سجودكم وجهة معبودكم ، أيها القوم الضالون المنصرفون عن المسجود الحقيقي والمعبود المعنوي ، بل اسجدوا وتذللوا { للَّهِ } المتجلي في الأكوان ، المنزه عن الحلول في الجهات والمكان ، المقدس عن تتابع الساعات وتعاقب الأزمان ، بل له شأن لا يشغله شأن ولا يجري عليه زمان ومكان { ٱلَّذِي يُخْرِجُ } يمقتضى علمه المحيط ، وقدرته الكاملة الشاملة { ٱلْخَبْءَ } أي : الخفي المطوي المكنون { فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي : سماوات الأسماء الإلهية ، وأوصافه الذاتية الفاعلة ، وأرض الطبيعة القابلة لقبول الانعكاس من الأسماء والأوصاف { وَيَعْلَمُ } سبحانه بعلمه الحضوري { مَا تُخْفُونَ } في سرائركم وضمائركم ، بل بخفياتكم التي لا اطلاع عليها أصلاً بمقتضى قابلياتهم واستعداداتهم { وَمَا تُعْلِنُونَ } [ النمل : 25 ] من أفعالهم وأحوالهم . وكيف لا يظهر المكنون من الأمور ، ولا يعلم خفيات الصدور { ٱللَّهُ } الواحد الأحد الصمد ، الحي القيوم الذي { لاَ إِلَـٰهَ } أي : لا موجود في الوجود { إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ } [ النمل : 26 ] المحيط بجميع ما لمع عليه برق تجلياته المتشعشة المتحددة المترتبة على أسمائه الذاتية الكاملة ، المستدعية للظهور والبروز بإظهار ما كمن من الكمالات ، المندمجة في الذات الأحدية إلى فضاء الوجود .