Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 27, Ayat: 7-14)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثمَّ أخذ سبحانه بتعداد أرباب الطبقات والكرامة حثاً لحبيبه صلى الله عليه وسلم بالتوجه نحوه والتحنن إليه ، والمواظبة على شكر نعمه ، فبدأ بموسى - صلوات الرحمن عليه وسلامه - فقال مخاطباً لحبيبه صلى الله عليه وسلم : اذكر يا أكمل الرسل وقت { إِذْ قَالَ } أخوك { مُوسَىٰ } الكليم - صلوات الرحمن عليه - { لأَهْلِهِ } وزوجته ابنة شعيب عليه السلام حين سار معها من مدين إلى مصر ، وهي حاملة ، والليلة شاتية مظلمة ، وهم ضالون عن الطريق فجاءها الطلق ، واضطر موسى في أمرها ، فرأى شعلة نار من بعيد ، فقال لأهله : اثبتوا مكانكم . { إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ } ذا الساعة { مِّنْهَا بِخَبَرٍ } من الطريق ، يخبر به من عندها ؛ إذ النار قلما تخلو عن موقدين لها { أَوْ آتِيكُمْ } إن لم أجد عندها أحداً { بِشِهَابٍ } أي : جمر ذي { قَبَسٍ } أي : مقبوسة مشتعلة منها { لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } [ النمل : 7 ] وتستدفئون من البرد ، وتستضيئون منها للطريق . فاستقروا في مكانهم ، فذهب موسى { فَلَمَّا جَآءَهَا } أي : النار ، ووصل عندها { نُودِيَ } من وراء سرادقات العز والجلال تكريماً لموسى ، وتعظيماً له ، وتنبيهاً عليه من أن مرجع جميع مقاصدك وحوائجك هو الحق ، فاطلبه حتى تجد عنده جميع مقاصدك { أَن بُورِكَ } أي : الشأن ، إنه أكثر عليك خيرك وبركاتك يا موسى { مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنْ } ظهر { حَوْلَهَا } إذ هو محيط بجميع الأماكن ، ظاهر منها ، غير متمكن فيها ؛ أي : من ظهر فيها ولاح عليها . { وَ } بعدما تحققت بشهود الحق مع جميع الأماكن والأشياء ، نزهه عن الحلول فيها والإتحاد بها ، فقل : { سُبْحَانَ ٱللَّهِ } المنزه عن الأماكن كلها ، المتجلي في جميعها ؛ لكونه { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ النمل : 8 ] يربيها بدوام التجلي ، وامتداد الأظلال والعكوس الفائضة منه سبحانه عليها . ثمَّ لمَّا قلق موسى واستوحش عن هذا النداء ، وقرب إلى أن صار مغشياً عليه من شدة هوله ودهشته ، وكمال ولهه وحيرته ، نودي ثانياً باسمه استئناساً له ، وإزالةً لاستيحاشه : { يٰمُوسَىٰ إِنَّهُ } أي : إن من ناداك في النار ، وظهر على صورتها { أَنَا ٱللَّهُ } المحيط بجميع المظاهر والأكوان إحاطةَ البحر للأمواج والأزباد ، والشمس للأضواء والأظلال { ٱلْعَزِيزُ } الغاللب القادر ، المقتدر لقهر السّوى والأغيار { ٱلْحَكِيمُ } [ النمل : 9 ] المتقن في الأفعال والآثار الصادرة الظاهرة مني على أبدع ارتباط وأبلغ انتظام . { وَ } بعدما أزال وحشته ، وأذهب ولهه ودهشته بالمؤانسة والمواساة ، قال له آمراً : { أَلْقِ عَصَاكَ } التي أخذتها بيدك على الأرض ؛ لترى من عجائب صنعتنا وغرائب حكمتنا ما ترى ؛ حتى تتنبه من تبدل صورتها وسيرتها إلى سر سريان وحدتنا الذاتية في المظاهر كلها ، فألقاها على الفور فإذا هي حي تسعى { فَلَمَّا رَآهَا } موسى ؛ أي : العصا { تَهْتَزُّ } وتتحرك { كَأَنَّهَا جَآنٌّ } أي : حية صغيرة سريعة السير { وَلَّىٰ } وانصرف منها موسى { مُدْبِراً } خائفاً هائباً ، قلقاً حائراً من أمرها . { وَلَمْ يُعَقِّبْ } أي : لم يرجع إليها ليأخذها ؛ هيبةً وخوفاً قلنا منادين ؛ ليقبل : { يٰمُوسَىٰ لاَ تَخَفْ } من عصاك ، وستعود إلى سيرتها الأصلية { إِنِّي } من كمال مرحتمي وإشفاقي على خلَّ عبادي { لاَ يَخَافُ لَدَيَّ } أحد من أوليائي سيما { ٱلْمُرْسَلُونَ } [ النمل : 10 ] منهم ، المختارون للرسالة والتشريع العام . { إِلاَّ مَن ظَلَمَ } من المرسلين بارتكاب ذنب صدر منه ، لا عن عمد { ثُمَّ بَدَّلَ } وتدارك ذنبه { حُسْناً } بالتوبة والندامة { بَعْدَ سُوۤءٍ } صدر منه { فَإِنِّي غَفُورٌ } لهم أغفر لهم ، وأعفو عن زلتهم { رَّحِيمٌ } [ النمل : 11 ] أرحمهم وأقبل توبتهم بعدما صدرت عن خلوص طويتهم . { وَ } بعدما رأى موسى من عجائب العصا ما رأى قال له سبحانه ثانياً آمراً : { أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ } يا موسى { تَخْرُجْ } في الفور منه ، فأدخلها فيه فأخرجها ، ترها { بَيْضَآءَ } محيرة للعقول والأبصار ، مع أن بياضها { مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ } مرض عرض لها من برص وغيرها ، ثمَّ قيل له من قِبَل الحق : هي ؛ أي : اليد البيضاء آية ومعجزة جديدة دالة نبوتك ورسالتك ، موهوبة لك من عندنا ، معدودة { فِي تِسْعِ آيَاتٍ } عظام لك ، وهي : العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة والجذب . ثمَّ بعدما شهدت من يدك وعصاك ما شهدت يكفيك شهادتهما على صدقك في دعواك الرسالة ، مع أن لك معجزات كثيرة سواهما ، اذهب مرسلاً من عندي { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ } وبلغهم إنذاري وتخويفي ، ونزول عذابي عليهم ؛ من سوء صنيعهم { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } [ النمل : 12 ] خارجين عن مقتضى الحدود الموضوعة فيهم من عندنا وبوضعنا . فذهب موسى بإذن الله ووحيه إلى فرعون وأظهر الدعوة عنده ، وأقام البينة عليها { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ } أي : ظهرت على فرعون وقومه { آيَاتُنَا } الدالة على كمال قدرتنا وحكمتنا ، وصدق من أرسلنا إليهم ؛ لإرشادهم وتكميلهم ، مع كونها { مُبْصِرَةً } موضحة ، مبيِّنة لهم صِدْق موسى في دعوى الرسالة ، ظاهرة لائحة في نفسها أنها معجزة ، ما هي من جنس السحر والشعبذة { قَالُواْ } من فرط عتوهم وعنادهم : { هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ النمل : 13 ] ظاهر ، إنه مجعول بمكر وحيل . { وَ } من كمال استنكافهم واستكبارهم { جَحَدُواْ بِهَا } وأنكروا لها ، ولم يلتفتوا إليها ظاهراً { وَ } الحال أنها قد { ٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ } إنها معجزة خارقة للعادة صدرت عن أمر إلهي ، لا عن مكر وخديعة فظلموا أنفسهم بتكذيب ما تستقر في أنفسهم صدقاً وكونه معجزة { ظُلْماً } صريحاً ، وعداواناً عن الحق ، وميلاً إلى الباطل حسداً وعناداً . { وَ } استكبروا على موسى ، وأنكروا جميع ما جاء به من عند ربه { عُلُوّاً } وعتواً { فَٱنْظُرْ } أيها المعتبر الناظر { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } [ النمل : 14 ] المستكبرين الذين يكذبون ما يعلمون يقيناً حقيته في نفوسهم ، وينسبونه بأفواههم إلى السحر والشعبذة عناداً ومكابرةً ، انظر عاقبتهم ، كيف غرقوا واستؤصلوا إلى حيث لم يبقَ منهم أحد يخلفهم ويحيي اسمهم ؟ ! .