Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 41-45)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم أشار سبحانه إلى توهيم جميع التقليدات والتخمينات الحاصلة من هوية النفوس الخبيثة بالماديات ، والعقول المكدرة بكدورات الأوهام والخيالات ، فقال على سبيل التمثيل والتشبيه ، على مقتضى إدراك العوام ؛ توضيحاً لهم ليتنبهوا على طريق الحق ويتفطنوا بالتوحيد القويم : { مَثَلُ } القوم { ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ } المنزه عن الأشباه والأنداد مطلقاً { أَوْلِيَآءَ } يوالونهم كولاية الله ويعبدونهم مثل عبادته ، متوهمين أنهم شركاء معه أو شفعاء لهم عنده سبحانه مع أنهم لا يتأتى منهم الشركة والشفاعة أصلاً ، إنما مثلهم في هذا الاتخاذ والاعتقاد { كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ } التي { ٱتَّخَذَتْ بَيْتاً } من لعابها ، ثم تركتها واتخذت آخر مثلها ، ثم تركتها ، وهكذا حالها دائماً مع أن هذه الأبنية البيوتات المتخذة لا تدفع حراً ولا برداً ، ولا تصير مانعاً له من العدو وحجاباً كهؤلاء المقلدين الضالين الذين اتخذوا تقليد بعض الضلال ديناً ، ثم تركوها بتقليدٍ آخر منهم بلا رسوخ ولا تمكن ، وهكذا حالهم دائماً مع أن الأديان المتخذة لا تكشف لهم طريق الحق ، ولا توصلهم إلى معرفته وتوحيده ، ولا تنقذهم من الأوهام والخيالات الباطلة العائقة عن مشرب التوحيد ، ولا تخرجهم من سجن الطبيعة وقيود الإمكان وأغلال الأنانيات وسلاسل العينات . { وَ } قال سبحانه على سبيل التأكيد والمبالغة والتصريح بالتوهين بعدما كنى ؛ لينزجروا ويرتدوا على ما هم عليه من الأديان الباطلة : { إِنَّ أَوْهَنَ ٱلْبُيُوتِ } وأضعف الأبنية { لَبَيْتُ ٱلْعَنكَبُوتِ } إذ لا بيت أضعف منه ، وأشرف إلى التخريب والانهدام ، وأقل وقاية من الحر والبرد ودفع الضر { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 41 ] وهنه وعدم نفعه لما اتخذوها ، لكنهم لم يعلموا ، فاتخذوا جهلاً وعناداً ، فيسعلمون عاقبة ما اتخذوا ووبال ما عبدوا . ثم قال سبحانه على وجه الوعيد إياهم ، آمراً لحبيبه صلى الله عليه وسلم : قل لهم يا أكمل الرسل : { إِنَّ ٱللَّهَ } المطلع لضمائر عباده وسرائرهم { يَعْلَمُ } بعلمه الحضوري { مَا يَدْعُونَ } وتعبدون { مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ } من الأصنام والأوثان على التفصيل ؛ إذ لا يعزب عن حيطة علمه شيء مما ظهر وبطن وخفي وعلم ، ولكن يمهلهم ويؤخر أخذهم بها زماناً ؛ لحكم ومصالح استأثر الله بها ولم يطلع أحداً عليها { وَ } كيف لا يأخذهم بما صدر عنهم إنه { هُوَ ٱلْعَزِيزُ } الغالب القادر على الانتقام بالقوى الكاملة والبطش الشديد { ٱلْحَكِيمُ } [ العنكبوت : 42 ] المقتن في أفعاله بما لا مزيد عليه . { وَ } إن استهزءوا معك يا أكمل الرسل ، متهكمين بما في كتابك من التمثيلات بأحقر الأشياء وأضعفها مثل : الذباب والعنكبوت والنمل وغيرها لا تبال بهم وبتهكمكم و استهزائهم ؛ إذ { تِلْكَ ٱلأَمْثَالُ } التي { نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ } المنهمكين في الغفلة والنسيان ؛ لنوضح لهم طريق التوحيد والعرفان وسبيل السلامة والإيمان ، إنما هو للموفقين منهم المجبولين في استعداد القبول وفطرة الإسلام ، لا كل أحدٍ من أهل الغفلة والمترددين في أودية الجهل والخيال وهاوية المراء والجدال { وَ } لذلك { مَا يَعْقِلُهَآ } ويفهم معناها وما يصل إلى مغزاها { إِلاَّ ٱلْعَالِمُونَ } [ العنكبوت : 43 ] الواصلون بما فاض عليهم من رشحات بحر العلم الإلهي ينبوع بحر الوحدة الذاتية التي هي منبع جميع الكمالات اللائحة على صحائف الآفاق وصفحات الأكوان ، حيث { خَلَقَ ٱللَّهُ } المتجلي بجميع صور الكمالات وأظهر على مقتضى الأسماء والصفات { ٱلسَّمَٰوَٰتِ } أي : العلويات المتفاوتة ، المتخالفة باختلاف الأسماء والصفات ، والمنتشئة من الذات الأحدية حسب الشئون والتطورات المترتبة على الكمالات المندمجة فيها { وَٱلأَرْضَ } أي : طبيعة العدم ، القابلة لجميع الانعكاسات المنعكسة من أشعة التجليات الذاتية غيباً وشهادةً ، ظهوراً وبطوناً ، بروزاً وكموناً ، جمالاً وجلالاً ؛ يعني : ما خلق وأظهر ما ظهر وبطن إلا ملتبساً { بِٱلْحَقِّ } المطابق للواقع بلا شائبة شك فيه وارتياب { إِنَّ فِي ذٰلِكَ } الإيجاد والإظهار على الوجه الأبدع الأبلغ والنظام الأتم الأكمل { لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ العنكبوت : 44 ] الموحدين الموقنين بوحدة ذاته وكثرة أسمائه وصفاته حسب شئونه وتطورات على مقتضى التجليات المتجددة الغير المتكررة أزلاً وأبداً . { ٱتْلُ } يا أكمل الرسل { مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ } الجامع لما في النشأتين ، الحاوي لجميع الأمور الجارية في المنزلتين ، وتأمل في مرموزاته وإشارته حق التأمل والتدبر واتصف بأوامره واجتنب عن نواهيه ، واعتبر عن عبره وأمثاله وذق حلاوة معارفه وحقائقه { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ } أي : دوام على الميل المقرب إلى الله بجميع جوارحك وأركانك بالانخلاع عن لوازم ناستوك مطلقاً { إِنَّ ٱلصَّلاَةَ } على الوجه المذكور { تَنْهَىٰ } وتكف صاحبه { عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ } المترتبة عن القوى البهيمية من الشهوية والغضبية { وَٱلْمُنْكَرِ } المترتب على البشرية المنغمسة بالعلائق المادية والشواغل الجسمانية { وَ } بالجملة : { لَذِكْرُ ٱللَّهِ } المنزه في ذاته عن جميع الأكوان ، المبرئ أوصافه وأسماءه عن وصمة النقصان وسمة الحدوث والإمكان ، والاشتغال بذكره حسب إطلاقه { أَكْبَرُ } شمولاً وأتم توجهاً وأكمل حصولاً ووصولاً لو جذبتك العناية من لدن جنابه ووفقك التوفيق منه نحو بابه { وَ } كن يا أكمل الرسل في نفسك متوجهاً إلى ربك ، متقرباً إليه على الوجه الذي أمرت به ، ولا تلتفت إلى هذيانات أهل البدع والأهواء الفاسدة ؛ إذ { ٱللَّهُ } المطلع بجميع حالاتهم { يَعْلَمُ } منهم { مَا تَصْنَعُونَ } [ العنكبوت : 45 ] من الاستخفاف الاستهزاء وعدم المبالاة بمعالم الدين ومراسم التوحيد واليقين ، فيجازيهم على مقتضى علمه بهم .