Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 55-60)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اذكر لهم يا أكمل الرسل { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ ٱلْعَذَابُ } في الآخرة ، كغشي أسبابها التي هي عبارة من لوازم الإمكان إياهم اليوم { مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } أي : من أعلاهم وأسفلهم ، ومحيطاً بجميع جوانبهم { وَيِقُولُ } قائل من قِبَل الحق زاجراً لهم وتوبيخاً : { ذُوقُواْ } أيها المستكبرون المصرون على الكفر والعناد جزاء { مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ العنكبوت : 55 ] أيها المعاندون . ثمَّ قال سبحانه على سبيل التعليم التنبيه منادياً لخُلَّص عباده الذين جلّ همهم الإخلاص في جميع ما جاءوا به من الأعمال : { يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } أضافهم سبحانه إلى نفسه ؛ تفضلاً عليهم ، ومزيد إكرامه لهم مقتضى إيمانكم : الإخلاص والحضور معي ، والتوجه إليَّّ مع فراغ البال في كل الأحوال ، فإن لم تجدوا الفرصة والفراغة المذكورة في أرض لا تستقرون فيها ، ولا تتمكنون عليها ، بل عليكم أن تفروا وتخرجوا منها طالبين الجمعية والحضور { إِنَّ أَرْضِي } ومقر عبادي وعبادتي { وَاسِعَةٌ } فإن لم تجدوا لذة التوجه وحلاوة الرجوع إليَّ في أرض ، ولم يتيسر لكم الجمعية الحاصلة المنعكسة من صفاء مشرب التوحيد فعليكم الخروج والجلاء منها ، وبالجملة : { فَإِيَّايَ } في كل الأماكن والأحوال { فَٱعْبُدُونِ } [ العنكبوت : 56 ] عبادةً مقارنة بالإخلاص والخضوع والخشوع ، والتبتل والتوكل والتفويض ، والرضا والتسليم ، ولا تغتموا وتحزنوا بالخروج عن الأوطان والجلاء منها خوفاً من الموت الطبيعي ، إن كنتم مائلين إلينا راغبين نحونا . إذ { كُلُّ نَفْسٍ } من النفوس المستحدثة بحدوث البدن { ذَآئِقَةُ } كأن { ٱلْمَوْتِ } في أي موطنٍ ومكانٍ كانت { ثُمَّ } بعدما ذاق كأس الموت ، وخلص عن قيود الهويات العدمية المانعة عن الطبيعي لإطلاق الحقيقي ، فحينئذٍ { إِلَيْنَا } لا إلى غيرنا ؛ إذ لا موجود في الوجود سوانا { تُرْجَعُونَ } [ العنكبوت : 57 ] رجوع الأضواء إلى الشمس ، والأمواج إلى الماء . { وَ } بعد رجوع الموحدين { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } موقنين { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } مقارنين إيمانهم بها ، مخلصين فيها إلينا { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ } وننزلنَّهم تفضلاً منا إياهم وتكريماً { مِّنَ ٱلْجَنَّةِ } المعدة لأرباب المعرفة التوحيد { غُرَفَاً } أي : لكل منهم غرفة معينة تصير له مقراً ومنزلاً { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي : أنهار المعارف والحقائق ، والمكاشفات والمشاهدات على تفاوت طبقاتهم وقدر قابليتهم { خَالِدِينَ فِيهَا } دائمين ، غير متحولين عنها أصلاً { نِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ } [ العنكبوت : 58 ] الجنة وما فيها ، مما لاعينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، وهم أُولوا العزائم الصحيحة . { ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ } على جميع مشاق التكاليف ومتاعب الطاعات وأذيات الأعادي ، والجلاء من الأوطان ومفارقة الخلان ، وغير ذلك مما جرى عليهم من طوارق الحدثان { وَ } مع ذلك هم في جميع حالاتهم ، وفي عموم ما جرى عليهم { عَلَىٰ رَبِّهِمْ } لا على غيره من الوسائل والوسائط { يَتَوَكَّلُونَ } [ العنكبوت : 59 ] وينسبون إليه ما ينسبون لا إلى الوسائل والأسباب العادية ؛ إذ الكل منه بدأ وإليه يعود ، بل الوسائل كلها مطوية عندهم ، والأسباب منسية لديهم ، بل نظرهم مقصور على المسبب الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، القيوم المطلق الذي { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 3 - 4 ] . وبعدما أمر سبحانه المؤمنين بالجلاء ومفارقة الأوطان ؛ لكسب الجمعية وحضور القلب ، قالوا متخوفين عن العيلة والاضطرار في أمر المعاش : كيف نعمل ونعيش في بلاد الغربة ، ولا معيشة لنا فيها ، قال سحبانه تسليةً لهم ، وإزالةً لخوفهم : { وَكَأَيِّن } أي : كثير { مِّن دَآبَّةٍ } تتحرك على الأرض محتاجة إلى الغذاء المقوم لمزاجها مع أنها لضعفها وعدم مكنتها { لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا } أي : لا تطيق لحمل رزقها وادخاره وكسبه { ٱللَّهُ } المتكفل لأرزاق عموم عباده { يَرْزُقُهَا } من حيث لا تحتسب { وَإِيَّاكُمْ } أيضاً ، وأنتم من جملة الحيوانات التي تكفل الله برزقها ، بل من أجلتها ، فلا تغتموا لأجل الرزق ، ولا تقولوا قولاً به زل نعلكم عن خالقكم ورازقكم { وَ } لا تُخطروا أيضاً ببالكم أمثال هذا ؛ إذ { هُوَ ٱلسَّمِيعُ } لأقوالكم { ٱلْعَلِيمُ } [ العنكبوت : 60 ] بأحوالكم وبيناتكم ، فعليكم أن تتقوا في كل الأحوال بالله المتولي لأمركم ، مفوضين كلها إليه ، متوكلين عليه ، متمكنين في توكلكم وتفويضكم ، راسخين فيه بلا تلعثمٍ وتزلزلٍ .