Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 42-46)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَ } اذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من مدائح آل عمران واصطفاء الله إياهم { إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ } بأمر الله ووحيه لمريم - رضي الله عنها - ملهمين لها ، مشافهين معها ، منادين على سرها : أبشري { يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَـٰكِ } اختارك لخدمة بيته مع أنه لم يعهد منه اختيار النساء للخدمة { وَطَهَّرَكِ } بفضله عن جميع الخبائث والأدناس العارضة للنسوان { وَٱصْطَفَـٰكِ } خيرك وفظلك بهاتين الخصلتين الحميدتين { عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [ آل عمران : 42 ] وإنما خصصها بما خصصها ؛ لتكون آية لما يترتب عليها ويظ هر بسببها من بدائع أودعه الله سبحانه في إيجادها من حبلها بلا مباشرة أحد ، بل بمجرد كلمة ملقاة من عنده ومعجزاته وخوارق ظهرت من ابنها لم يظهر مثلها من أحد . ثم لما أخبرت الملائكة بإصفائه سبحنه إياها ، نادتها الملائكة ثانياً بأمر الله أيضاً ؛ تعليماً لها التوجه والرجوع إلى الله على وجه الخضوع والتذلل والإخبات والخشوع { يٰمَرْيَمُ } المختارة المقبولة عند الله { ٱقْنُتِي } توجهي وتضرعي { لِرَبِّكِ } الذي رباك بلطفه وقبلك نذيرة من أمك ، واصطفاك على نساء العالمين بأنواع الفضائل شكراً لما تفضل عليك { وَٱسْجُدِي } واخضعي وتذللي نحوه ملقية جباهك على الأرض ؛ لأداء شيء من حقه { وَٱرْكَعِي } دائماً ؛ لخدمة بيته وتطهيراً من الأوساخ والأدناس { مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } [ آل عمران : 43 ] المحريين المنحنين قامتهم دائماً على خدمة الله وخدمة بيته . { ذٰلِكَ } المذكور من اصطفاه الله آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران ، وخصوصاً قصة مريم وأمها وزكريا وزوجه وابنه { مِنْ أَنَبَآءِ ٱلْغَيْبِ } أي : من الأخبار المغيبة المجهولة عندك { نُوحِيهِ إِلَيكَ } يا أكمل الرسل مع خلاء خاطرك وضميرك عنها ، ولا معلم لك سوى وحينا وإلهامنا مع كونك أمياً عن مطالعة القصص والتواريخ { وَ } الحال أنه { مَا كُنتَ } لهويتك الشخصية { لَدَيْهِمْ } وقت { إِذْ يُلْقُون } أي : الأحبار { أَقْلاَمَهُمْ } للاقتراع في أنهم { أَيُّهُمْ يَكْفُلُ } يحفظ { مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ } أيضاً { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ آل عمر ان : 44 ] في أمرها وحفظها . وإنما نوحيه إليك ؛ ليكون آية لك على صدقك في دعواك النبوة والرسالة ، والإكار على أمثال هذه الأخبارات والإنباءات الصادرة عن الأنبياء والأولياء ، المستندة إلى محض الوحي والإلهام النازلة من عند الله ، إما نشأ من العقل القاصر المموه المضل عن طريق الكشف واليقين ، وإلا فمن صفات عقله المفاض له من حضرة العلم المحيط الإلهي عن كدورات الوهم والخيال ، وانكشفت سريرة سره بسرائر الأقوال والأفعال والأحوال ، ظهر عنده بلا سترة وحجاب أن من النفوس البشرية من ترقب في هذه النشأة من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ، واتصلت بالمبادئ العلية التي هي الصفات الإلهية ، واضمحلت ناسوتها وغلبت اللأهوتية عليها . وحينئذ ظهرت منها على اتفاق من الحضرة العلية الإلهية ، وإرادة غيبية ومكاشفات عينية متعلقة بعضها بالغيب وبعضها بالشهادة ، كالإخبار عن الوقائع الماضية والمستقبلية ، كما نسمع ونشاهد أمثال ذلك من بعض بدلاء الزمان ، أدام الله بركته على مفارق أهل اليقين والعرفان ، في حالتي قبضه وبسطه حكايات وكلمات متعلقة بوقائع وقعت في البلاد البعيدة . ونحن نجزن بوقوع بعضها كما نسمع منه ، ونجزم أيضاً بأنه ما هو حاضر عند وقوعها ، وأيضاً نجزم بأنه لم يسمع من أحد لانسلاخه عن الاستخبار الاستفسار على الوجه المعتاد بين الناس ، وسمع منه مدخله أيضاً عن الأحوال التي جرت بيننا وبينه بمدة متطاولة نستحضره في خلواته ، ويتلفظ بها بلا فوت دقيقة ، ونحن إذا راجعنا وجداننا لم نستحضر الأمور التي جرت علينا في يومنا هذا بلا فوت شيء . وأمثال ذلك من جنابه - أدام الله بركته - كثيرة ، ومن له أدنى بصيرة وإيمان صادق بطريق المكاشفة والوحي والإلهام الإلهي لم يشك في أمثال هذه الخوارق من الأنبياء والأولياء أصلاً ، بل يعلم يقيناً أن الحكمة والمصلحة في إظهار نوع الإنسان وإرسال الرسل وإنزال الكتب إنما هي لهذا التفطن والتدبر ، { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [ النور : 40 ] . اذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من مدائحها وقت { إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } منادين على سرها مبشرين لها : { يٰمَرْيَمُ } المخترة المصطفاه { إِنَّ ٱللَّهَ } المتفضل عليك بأنواع اللطف والكرم { يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ } صاردة { مِّنْهُ } مكونة لك منك ابناً بلا أب ؛ إظهاراً لقدرته ليكون معجزة لابنك ، وإرهاصاً لك { ٱسْمُهُ } من عنده { ٱلْمَسِيحُ } لفظ سرياني معناه : المبارك ؛ لأنه سبحانه بارك عليه ، وعلمه الشخصي بين الأنام { عِيسَى } وهو من الأعلام العجمية ، وكنيته { ٱبْنُ مَرْيَمَ } إذ لا أب له حتى يكنى به ، وهو مع كونه بلا أب { وَجِيهاً } مشهوراً معروفاً مرجعاً للأنام { فِي ٱلدُّنْيَا } بالنبوة والرسالة ، يتوجه إليه الناس في أمور معاشهم ومعادهم { وَ } في { ٱلآخِرَةِ } أيضاً لرجوعهم إليه للشفاعة { وَ } كيف لا يشفع للعصاة وهو { مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ } [ آل عمران : 45 ] عند الله . { وَ } علاقمة تقربه أنه { يُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ } بما يتعلق بأمور الدنيا والدين حال كونه طفلاً { فِي ٱلْمَهْدِ وَ } حال كونه { كَهْلاً } على طريق واحد بلا تفاوت زيادة ونقصان { وَ } هو لنجابة عرقه في حالتي الطفولة والكهولة { مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } [ آل عمران : 46 ] للرسالة والنبوة .