Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 31, Ayat: 12-15)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثمَّ قال سبحانه عن سبيل إظهار الفضل الامتنان ، والتفرد بمقتضى الألوهية والربوبية : { وَلَقَدْ آتَيْنَا } من مقام عظيم لطفنا وجودنا { لُقْمَانَ } بن باعورا بن ناخور بن آزر ، فكان ابن أخت أيوب عليه السلام أو ابن خالته ، وعاش إلى أن أدرك داوود عليه السلام فأخذ منه العلم و { ٱلْحِكْمَةَ } وهي عبارة عن اعتدال الأوصاف الجبلية المودعة في النفوس البشرية على مقتضى الفطرة الأصلية ، والتخلق بالأخلاق المرضية المنشئة من الأوصاف الذاتية الإلهية ، وقلنا له بعدما أنعمنا عليه نعمة الحكمة ، وأعددناه لقبول فيضان أنواع اللطف والكرامات : { أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ } واصرف بمقتضى الحكمة الموهوبة لك من عندنا جميع ما أعطيناك من النعم العظام على ما جبلنا لأجله ؛ لتكون من زمرة الشاكرين المواظبين على أداء حقوق جودنا وكرمنا ، ومن جملة المطيعين لمقتضيات حكمتنا وأحكامنا . { وَ } أعلم أيها المجبول على الحكمة الفطرية أنه { مَن يَشْكُرْ } نعمنا عاد على نفسه فوائد كرمنا { فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } إذ فائدة شكره عائدة إليه ، مزيدة لنعمنا إياه ، مستجبلة لأنواع لطفنا وإحساننا معه { وَمَن كَفَرَ } لنعمنا من خبث طينته ، وأعرض عن أداء حقوق كرمنا إياه ، فوبال كفرانه أيضاً عائد إلى نفسه ؛ إذ عندنا الشكر والكفر سيان ، ونحن منزهون عن الربح والخسران { فَإِنَّ ٱللَّهَ } المتجلي على عموم الأنفس والآفاق بالاستحقاق { غَنِيٌّ } بذاته عن جميع صور إحسان عباده معه { حَمِيدٌ } [ لقمان : 12 ] هو في ذاته باعتبار أوصافه الذاتية الظاهرة آثارها على صفائح الأكوان والمكونات ، المتجهة نحو مبدعها ، المثنية له حالاً ومقالاً ، سراً وجهاراً . { وَ } اذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من المؤمنين معناه تذكيراً لهم ، وعظةً عليهم : { إِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ } المسمى بأنعم أو أشكم ، أو ماثان قولاً ناشئاً عن محض الحكمة المتقنة ، الموهوبة له من عنده سبحانه { وَهُوَ يَعِظُهُ } ويقصد تهذيب ظاهره وباطنه عن الأخلاق الردَّية والخصائل الدنيَّة ، منادياً أياه ، مصغراً على سبيل التحنن والتعطف ، وكمال الترحم والتلطف ، مضيفاً إلى نفسه ؛ ليقبل منه ما أوصاه : { يٰبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ } المنزه عن الشريك والشبيه ، والكفء والنظير ، واعلم أن أجلّ أخلاقك ، وأعز أوصافك : التوحيد وتنزيه الحق عن الشبيه والتعديد ، وأخس أوصافك ، وأرذل أخلاقك ، وأردى ما جرى في خلدك وضميرك : الشرك بالله { إِنَّ ٱلشِّرْكَ } واعتقاد التعدد والاثنينية في حق الحق ، الحقيقي بالحقية ، الوحيد بالقيومية ، الفريد بالديمومية ، المستقبل بالألوهية والربوبية { لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] لا ظلم أعظم وأفحش ، أعاذنا الله وعموم عباده منه . ثمَّ قال سبحانه على سبيل التوصية والمبالغة تأكيداً وتحقيقاً على ما أوصى به لقمان ابنه من النهي عن الشرك ، والزجر عنه : { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ } وألزمنا عليه أولاً بعدما أظهرناه قابلاً لحمل التكاليف المستكملة { بِوَالِدَيْهِ } أي : بإطاعتهما ، وبحفظ آداب المعاشرة والمصاحبة معهما ، ورعاية حقوقها على ما ينبغي ويليق بلا فوت شيء من حقوقهما ، سيما الوالدة المتحملة لأجله أنواع المحن والمشاق ؛ إذ { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ } بواسطة حمله في بدء وجوده { وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ } أي : ضعفاً على ضعف ؛ إذ كلما ازداد نشوءه ازداد ضعفها إلى أن انفصل عنها ، وبعد انفصاله تداوم لحفظه وحضانته إلى فطامه { وَفِصَالُهُ } أي : فطامه إنما هو { فِي عَامَيْنِ } وبعد انفطم تلازم أيضاً على حفظه إلى وقت بلوغه ، وبعدما بلغ سن التكليف قلنا له : { أَنِ ٱشْكُرْ لِي } أيها المكلف المتنعم بأنواع النعم مني أصالةً وتسبباً ؛ لأني خلقتك وأظهرتك من كتم العدم ولم تك شيئاً . { وَ } اشكر أيضاً { لِوَالِدَيْكَ } ، { وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ } [ الإسراء : 24 ] لإقامتهما على حفظك وحضانتك إلى أن كبرت ، وبلغت مرتبة أشدك ، وكمال عقلك ورشدك ، واعلم أن شكرك لهما راجع إليَّ أيضاً ؛ إذ أقدرتهما ومكنتهما على حفظك ، وألقيت محبتك في قلبيهما ، وبالجملة : { إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } [ لقمان : 14 ] والمرجع في جميع الأفعال الصادرة من العباد ظاهراً ؛ إذ هم وما صدر عنهم من الأفعال مستندون إلينا أولاً وبالذات ، وكيف لا تُستند أفعالهم إلينا ؛ إذ جميع ما صدر عنهم تابع لوجوداتهم ، مترتب عليها ؟ ! والحال أنه ليس لهم وجود في أنفسهم ، بل وجوداتهم إنماهي رشحة من رشحات وجود الحق ، وفيء من أضلال أوصافه وأسمائه الذاتية . { وَ } بعدما أكدنا عليكم أيها المكلفون في حفظ حقوق والديكم ، وبالغنا فيه { إِن جَاهَدَاكَ } أي : والداك أيها المكلف ، واجتهدا في شأنك ، وبالغا في الجهد والسعي إلى أن قاتلا معك وأرادا مقتك { عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي } وتعتقد رباً سواي وتعبده مثل عبادتي ، مع أنك خالي الذهن ؛ إذ { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } يتعلق بنفي الشريك وإثباته أيضاً { فَلاَ تُطِعْهُمَا } في أمرهما هذا وسعيهما فيه ؛ إذ أصل فطرتك مجبولة على التوحيد سواء تعلق علمك به أو لم يتعلق ، فلك ألاَّ تطعهما وتنصرف عن أمرهما هذا { وَ } مع انصرافك على أمرهما هذا { صَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا } وإن كانا مشركين { مَعْرُوفاً } مستحسناً عقلاً وشرعاً ومروءةً حفظاً لحقوقهما . { وَ } لا تتبع بشركها وكفرهما ، بل { ٱتَّبِعْ } في الدين والملة { سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ } ورجع { إِلَيَّ } ودين من توجه نحوي موحداً إياي ، بريئاً من الشرك معي ، وبالجملة : امرض على التوحيد واسلك طريقه مادمت في دار الابتلاء { ثُمَّ } بعدما انقرضت النشأة الأولى { إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } تابعاً ومتبوعاً ، أصلاً وفروعاً { فَأُنَبِّئُكُمْ } وأخبركم { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ لقمان : 15 ] أي : بتفاصيل أعمالكم التي صدرت عنكم في دار الاختبار ، وأجازيكم على مقتضاها ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر .