Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 31, Ayat: 16-19)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وبعدما سجَّل لقمان على ابنه التوحيد بنفي ضده على طريق المبالغة والتأكيد ، أراد أن ينبه عليه بأنه لا بدَّ له أن يحفظ على نفسه الأدب مع الله في كل الأحوال ، بحيث لا يصدر عنه شيء يخالف توحيده ، ولا يلائمه ولو كان ذرة حقيرة ؛ إذ لا يعزب عن حيطة حضرة علمه سبحانه شيء ، فقال أيضاً منادياً : { يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ } أي : الخصلة الذميمة التي أتيت بها المنافية للتوحيد ، أو الخصلة الحميدة الملائمة له ، لا يعزب كلامهما عن علم الله مطلقاً ، وبالجملة : { إِن تَكُ } فرضاً ما جئت به من الخصلة الذميمة والحميدة في صغر الحبة والوزن { مِثْقَالَ حَبَّةٍ } واحدة كائنة { مِّنْ خَرْدَلٍ } أي : هي مثل في الحقارة والصغر { فَتَكُنْ } أنت بعدما جئت بها { فِي صَخْرَةٍ } أي : جوفها ، وهي أخفى المواضع وأستر الأمكنة { أَوْ فِي } أعلى { ٱلسَّمَٰوَٰتِ } وفوقها ، وهو ما وراء الفلك الأطلس { أَوْ فِي } أسفل { ٱلأَرْضِ } وقعرها . وبالجملة : إن كنت في أخفى الأماكن وأحفظها { يَأْتِ بِهَا } أي : بك وخصلتك التي صدرت عنك { ٱللَّهُ } الرقيب عليك في جميع حالاتك ، ويجازيك بمقتضاها إن تعلق إرادته ومشيئته بأحضارك وإتيانها ، وبالجلمة : { إِنَّ ٱللَّهَ } المطلع على السرائر والخفايا { لَطِيفٌ } لا يحجبه حجب ، ولا يمنعه سدل { خَبِيرٌ } [ لقمان : 16 ] ذو خبرة ، يعلم كنه الأشياء وإن دقت ورقت ولا كتنه ذاته ، مع أنه أظهر وأبين في ذاته من عموم مظاهره ومصنوعاته . وبعدما سمعت { يٰبُنَيَّ } وصف ربك وحيطة علمه وقدرته ، ولطافة إطلاعه وخبرته { أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ } أي : دوام ميلك نحوه بجميع أركان وجوارحك مخلصاً في ميلك ورجوعك إليه سبحانه ، محرماً على نفسك جميع ما يشغلك عن ربك ، مجرداً عارياً قلبك عن جميع منسوباتك ومقتضيات بشريتك ولوازم هويتك { وَأْمُرْ } يا بني على بني نوعك أولاً إن قصدت تكميلهم وإرشادهم إلى مقصد التوحيد { بِٱلْمَعْرُوفِ } المستحسن عقلاً وشرعاً ، وكلم معهم على قدر عقولهم بلا إغراء ولا إغواء ، ولا تفش عليهم سر التوحيد ما لم يستحقوا لحفظه ، ولم يستعدوا له قبوله { وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } المستهجن عقلاً وشرعاً ، وعادةً ومرءوةً ، ونبههم على وجه القبح والهجنة ، وألطف معهم في تبيينها لعلهم يتفطنون بمقتضى فطرتهم التي فطروا عليها في بدء الأمر . { وَ } بالجملة : { ٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ } في تمشية سلوك التوحيد ، وتقوية طريقه ، وكن متحملاً على مشاق الطاعات ومتاعب العبادات ، وارض من ربك بجميع ما جرى عليك ، وثبت لك في لوح قضائه { إِنَّ ذَلِكَ } المذكور ؛ أي : كل واحد من الأمور المذكورة والخصائل المأمورة { مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [ لقمان : 17 ] أي : من الأمور التي عم الحق عليها ، وأوجبها على أولي العزائم الصحيحة من خلَّص عباده إرشاداً لهم إلى وحدة ذاته ، وزلال هدايته الصافية عن كدر الضلالات والجهالات . وكن يا بني في تمدنك ومعاشرتك مع بني نوعك ليناً هيناً ، بشَّاشاً بسَّاماً { وَلاَ تُصَعِّرْ } أي : لا تمل ولا تعرض { خَدَّكَ } أي : صفحة وجهك التي بها مواجهتك { لِلنَّاسِ } ولا تلوِ عنقك عنهم كبراً وخيلاً ، كما يفعله أرباب النخوة من الجهلة المستكبرين المتفوقين ، المفتخرين بما عندهم من المال والجاه والثروة والسيادة ، والعلوم الرسمية على الفقراء الضعفاء الفاقدين لها { وَ } بالجملة : { لاَ تَمْشِ } يا بني { فِي ٱلأَرْضِ } التي بُسطت للتذلل والانكسار { مَرَحاً } أي : ذا فرح وسرور ، متفخراً بما عندك من الحطام الفاني { إِنَّ ٱللَّهَ } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ } يمشي على وجه الأرض خيلاً ، بحيث يتبادر منه الكبر والنخوة في بادئ النظر { فَخُورٍ } [ لقمان : 18 ] بما عنده من الحسب والنسب ، والمال والجاه بطر بها ، مباه بسببها . { وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } أي : توسط يا بني في مشيك بين الإسراع المذهب بهاء المؤمن ووقاره ، وبين الدبيب الموجب للعجب والخيلاء { وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } أيضاً ، وأنقص منه ولا ترفعه وإن كان حسناً ، فإنك - يقصد رفعة صوتك مبالغاً فيها - تشبه الحمار ؛ إذ هو مخصوص من بين سائر الحيوانات بترفيع الصوت والمبالغة فيه ، ومن بالغ في رفع صوته ، فقد أشبه نفسه به ، ولا شك أن صوته منكر عند جمهور العقلاء ، وجميع الحيوانات أيضاً حتى إن الكلب يتأذى من صوته ، ويفزع منه عند سماعه من غاية تأثيره وتألمهن وبالجملة : { إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ } وأوحشها وأقرعها للآذان { لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ } [ لقمان : 19 ] وكيف تشبهون أنفسكم أيها المجبولون على الشرف والكمال على أدون الحيوانات ، وأذل المخلوقات ، وأنزلها رتبةً ؟ ! .