Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 34, Ayat: 10-14)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَ } من كما قدرتنا ووفور حكمتنا { لَقَدْ آتَيْنَا } عبدنا { دَاوُودَ } المتحقق بمقام الخلافة والحكومة التامة { مِنَّا فَضْلاً } له ، وامتناناً عليه مما لم نقض بأمثاله إلى سائر الأنبياء وهو أنَّا أمرنا الجمادات والحيوانات بإطاعته وانقياده إلى أن قلنا منادياً لها : { يٰجِبَالُ أَوِّبِي } أي : أرجعي { مَعَهُ } التسبيح ، وسيري معه حيث سار ، ولا تخرجي عن حكمه ، فانقادت له الجبال إلى حيث متى سبح ، سُمع منها التسبيح والتذكير ؛ وإلى حيث سار ، سارت معه { وَ } كذا سخرنا له { ٱلطَّيْرَ } وصارت تنقاد لحكمه وأمره كسائر العقلاء ، فيحكم عليها ويأمرها ، فامتثلت بأمره وأطاعت بحكمه بلا منع وإباء { وَ } من جملة فضلنا إياه : إنَّا { أَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ } [ سبأ : 10 ] بلا نار ومطرقة ، حيث جعلناه ليناً في يده كالشمعة ، يبدله كيف يشاء بلا تعب ومشقة . وبعدما ألنا له الحديد أمرنا { أَنِ ٱعْمَلْ } يا دوود بإرشادنا وتعليمنا { سَابِغَاتٍ } دروعاً واسعات { وَقَدِّرْ } أي ضيق وكثف { فِي ٱلسَّرْدِ } والنسخ بقدر الحاجة ، لا يمكن مرور السهام عنها أصلاً { وَ } بعدما آتيناه وأتباعه الملك والولاية التامة والنبوة العامة فضلاً وامتناناً له أصالةً ولأصحابه تبعاً ، قلنا لهم تعليماً : { ٱعْمَلُواْ } يا آل داوود { صَالِحاً } من الأعمال والأخلاق مقبولاً عندي ، مرضياً لدي { إِنِّي } بمقتضى علمي وإطلاعي { بِمَا تَعْمَلُونَ } من عموم الأعمال { بَصِيرٌ } [ سبأ : 11 ] أنقد كلاً منها ، أقبل صالحها وأرد فاسدهما . { وَ } أيضاً من مقام فضلنا وجودنا سخرنا { لِسُلَيْمَانَ } بن داوود ، عليهما السلام { ٱلرِّيحَ } العاصفة ، وجعلناها مسخرة تحت حكمه وتصرفه ، بحيث تحمل كرسي سليمان وجنوده عليها وتسير إلى حيث أشار وشاء { غُدُوُّهَا شَهْرٌ } أي جريها في الغداة مسيرة شهر { وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } أيضاً كذلك { وَ } أيضاً من كمال جودنا إياه { أَسَلْنَا } وأذبنا { لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ } أي : النحاس ، فذاب في معدنه ، ونبع منه نبوع العيون الجارية في كل شهر ثلاثة أيام ، قيل : أكثر ما في الناس من النحس من ذلك . { وَ } سخرنا له أيضاً ؛ عناية منها معه { مِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ } مقهوراً تحت حكمه وتصرفه { بِإِذْنِ رَبِّهِ } أمرهم سبحانه بإطاعته وانقياده بحيث لا ينصرفون ولا يستنكفون عن حكمه أصلاً { وَ } شرط معهم سبحانه تأكيداً لإطاعتهم إياه ، أنه { مَن يَزِغْ } أي : يعدل ويمل { مِنْهُمْ } أي : من الجن { عَنْ أَمْرِنَا } المبرم المحكم إياهم ، وهو إطاعتهم نبينا سليمان عليه السلام { نُذِقْهُ } في هذه النشأة { مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } [ سبأ : 12 ] لأنه قد وكَّل سبحانه على الجن ملكاً بيده سوط من نار ، فمن مال منهم عن حكم سليمان ضربه به ، فأحرقه ولا يراه الجني . لذلك صارا مقهورين تحت حكمه ، أمرهم ما يشاء حيث { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ } أي : مساجد لطيفة وحصون حصينة وأماكن منيعة ، إنما سمي بها ، يحرب عليها ويتلجأ إليها في الشدة ولدى الحاجة ، ومن جملة ما علموا له من المساجد الحصينة العجيبة : بيت المقدس ، في غاية الحسن والبهاء وكمال المنعة ، ولم يزل على عمارته عليه السلام إلى أن خربه بختنصر { وَتَمَاثِيلَ } هي الصور من الزجج ورخام ونحاص وصفر وشبهه ، فكانوا يعملون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في البقاع الشريفة والمساجد والمعابد ؛ ترغيباً للناس في دخولها والعبادة فيها وتنشيطاً ، وقد عملوا له في أسفل كرسيه أسدين ، وفي فوقه نسرين ، فإذا أراد الصعود عليه بسط له الأسدان ذراعيهما فارتقى ، وإذا تمكن عليه أظله النسران بجناحيهما ، وحرمة التصاوير شرع مجدد { وَجِفَانٍ } أي : صحاف عظيمة وقصاع كبيرة وسيعة { كَٱلْجَوَابِ } أي : كالحياض الكبار ، ومن غاية كبرها يقعد على كل جفنة عند الأكل ألف رجل { وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ } ثابتات على أثافيهن بحث لا تنزل عنها ؛ لثقلها وكبرها ، وقيل : أثافيها متصلة بها ، وكانت يُرتقى إليها بالسلالم . وبعدما أعطى آل داوود من الجاه والثروة والعظمة ما لم يعط أحداً من العالمين ، قيل لهم من قبل الحق ؛ تنبيهاً عليهم وحثاً لهم إلى مواظبة الشرك ومدوامة الرجوع نحو المفضل الكريم : { ٱعْمَلُوۤاْ } يا { آلَ دَاوُودَ } عملاً صالحاً مرضياً عند الله ، ولا سيما اشكروا { شُكْراً } مستوعباً لجميع جوارحكم وجوانحكم وأوقاتكم وحالاتكم بحيث لا يشذ عنكم وقت لم يصدر عنكم فيها شكر { وَ } اعلموا وإن بالغتم في أداء شكر نعم الله وبالغتم بمقتضى المرتبة القصوى منه ، ما أديتم حق شكره ؛ إذ { قَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [ سبأ : 13 ] لأنه وإن استوفى واستوفر في أدائه إلى حيث يستوعب جميع أركانه وجوارحه وجوانحه وجميع خواطره وهواجس نفوسه وسره ونجواه ، ومع ذل كلا يوفي حقه ؛ لأن توفيقه وإقداره سبحاه عليه أيضاً نعمة مستحقة للشكر ، مستدعية له لا إلى نهاية ، ولذا قيل : الشكور من يرى نفسه عاجزاً عن الشكر ؛ إذ لا يمكن الإتيان به على وجه لا يترتب عليه نعمة أخرى مستلزمة لشكر آخر . ثم لما كان داوود عليه السلام أسس بيت المقدس ي موضع فسطاط موسى عليه السلام ، فمات قبل تمامه ، فوصى بإتمامه إلى سليمان عليه السلام ، فاستعمل الجن فيه ، فلم يتم أيضاً ، إذا أُخبر من قِبل الحق بأجله ، فتغمم غماً شديداً بعدم إتمام البيت ، فأراد أن يعمِّي ويستر على الجن موته ليتموه ، فأمرهم أن يعلموا له صرحاً من قوارير له باب ، فعملوا له صرحاً كذلك . فدخل عليه على مقتضى عادته المستمرة من التحنث والتخلي للعبادة شهراً وشهرين وسنة وسنتين ، فاشتغل بالصلاة متكئاً على عصاه ، فقبض وهو متكئ عليها ، فبقي كذلك إلى أن أكلت الأرضة عصاه ، فخرَّ ، ثم فتحوا عنه وأرادوا أن يعرفوا وقت موته ، فوضعوا الأرضة على العصا ، فأكلت يوماً وليلةً مقداراً منها ، فقاسوا على ذلك ، فعلموا أنه قد مات منذ سنة ، وكان عمره حنيئذٍ ثلاثاً وخمسين سنة ، وملك وهو ابن ثلاثة عشرة سنة ، وابتدأ لعمارة البيت لأربع مضين عن ملكه . أخبر سبحانه في كتابه هذا ، وحكاه على الوجه الذي مضى ، وأوجزه فقال : { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ } أي : على سليمان { ٱلْمَوْتَ } فأخبرنا له بموته ، فدعا نحونا بأن نعمِّي على الجن أمر موته ؛ حتى يتموا عمارة البيت ، فأعميناهم وسرتنا عليهم موته إلى أن تم عمارة البيت ، وبعدما تم { مَا دَلَّهُمْ } وما هداهم { عَلَىٰ مَوْتِهِ } وما أخبرهم عنه { إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ } أي : الارضة { تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } أي : عصاه ، وهو متكئ عليها { فَلَمَّا } أكلتها انكسرت عصاه { خَرَّ } وسقط عليه السلام على الأرض ، فحينئذ { تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ } أي : ظهر لهم وانكشفت عندهم أمر موته ، وعلموا بعدما التبس الأمر عليه موته بخروره وسقوطه ، فظهر حنيئذٍ للإنس أن الجن لم يكونوا مطلعين على الغيوب على ما زغموا في حقهم ؛ لأنهم لو كانوا من المطلعين لعلموا موته أول مرة ، ولم يعلموا مع { أَن } أي : أنهم ؛ أي : الحق { لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ } مطلقاً ، لعلموا أمر موته حين وقع ، ولو علموا { مَا لَبِثُواْ } واستقروا { فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } [ سبأ : 14 ] الذي هو عذاب العمل المتضمن لأنواع المتاعب والمشاق ، مع أنهم لم يرضوا به ، ولكنهم لبثوا وعملوا سنة بعد موته ، فظهر أنهم ما كانوا عالمين بالغيوب .