Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 34, Ayat: 19-23)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وبعد توجه الفقراء إلى ديارهم ، وازدحموا لكمال الخصب والرفاهية والمعيشة الوسيعة وسهولة الطريق { فَقَالُواْ } متشكين إلى الله من مزاحمة الفقراء وإلمامهم عليهم ، كافرين لنعمة التوسعة والسهولة : { رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ } منازل { أَسْفَارِنَا } حتى نحتاج إلى حمل الزاد وشد الرواحل ؛ ليشق الأمر على الفقراء ، فيتنحوا عنا ولم يزدحموا علينا { وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } بطلب هذا التعب ، فأجاب الله دعاءهم ، وخرب القرى التي بينهم وبين الشام ، وانصرف الفقراء عنهم ، وانقطع دعاؤهم لهم ، فاشتد الأمر عليهم ، وتشتتوا في البلاد ، ولم يبق عليهم شيء من التوسعة والرفاهية ، بل صاروا متفرقين مشتتين { فَجَعَلْنَاهُمْ } أي : قصة أمنهم وفاهيتهم وجمعيتهم ، بعدما عكسنا الأمر عليهم { أَحَادِيثَ } لمن بعدهم ، يتحدثون بينهم ، متعجبين قائلين على سبيل التحسر في أمثالهم : " تفرق أيدي سبأ " . { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي : فرقناهم في البلاد تفريقاً كلياً إلى حيث لحق غسان منهم بـ " الشامِ " ، وأنمار بـ " يثرب " وجذام بـ " تهامة " والأزد بـ " عمان " { إِنَّ فِي ذَلِكَ } التبديل والتشتيت ، وأنواع المحن والنقم بعد النعم { لآيَاتٍ } دلائل واضحات على قدرة القدير الحكيم العليم ، المقتدر على الإنعام والانتقام { لِّكُلِّ صَبَّارٍ } على المتاعب والمشاق الواردة عليه بمقتضى ما ثبت له في لوح القضاء ، ومضى على الرضا بمقتضيات الحكيم العليم { شَكُورٍ } [ سبأ : 19 ] لنعم الله الفائضة عليه ، مواظب أداء حقوقه . ثم قال سبحانه مقسماً : { وَ } الله { لَقَدْ صَدَّقَ } - بالتشديد والتخفيف - { عَلَيْهِمْ } أي : على هؤلاء الهالكين في تيه الخسران والكفران { إِبْلِيسُ } العدو لهم ، المصر المستمر على عداوتهم من مبدأ فطرتهم { ظَنَّهُ } الذي ظن بهم حين قال لأبيهم آدم : { لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 62 ] وقوله : { لاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ الأعراف : 17 ] وقوله : { وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ } [ النساء : 119 ] إلى غير ذلك ، وبعدما أضلهم عن طريق الشكر والإيمان { فَٱتَّبَعُوهُ } كفروا النعم والمنعم جميعاً { إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ سبا : 20 ] الموقنين بتوحيد الله ، المصدقين لرسله ، المتذكرين لعداوته المستمرة ، فانصرفوا عنه وعن إضلاله ، فبقوا سالمين عن غوائله . { وَ } العجب كل العجب أنهم اتبعوا له وقبلوا إغواءه وإغراءه وتغريره ، مع أنه { مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ } حجة قاهرة غالبة ملجئة لهم إلى متابعته وقبول وسوسته من قِبله ، بل من قِبلنا أيضاً ، وما ابتلينا وإغرينا هؤلاء البغاء بمتابعته - لعنه الله - { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } ونميز ونظهر التفرقة بين { مَن يُؤْمِنُ بِٱلآخِرَةِ } وبجميع المعتقدات التي أخبرها الله بها { مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا } أي : من النشأة الأخرى ، والأمور الكائنة فيها { فِي شَكٍّ } تردد وارتياب ، ولهذه التفرقة والتمييز ، أتبعناهم إليه { وَ } لا تستبعد يا أكمل الرسل أمثال هذه الابتلاءات والاختبارات من الله ؛ إذ { رَبُّكَ } الذي رباك على الهداية العامة { عَلَى كُلِّ شَيْءٍ } من مقدوراته ومراداته الكائنة والتي ستكون ، والجارية على سرائر عباده وضمائرهم ، والتي ستجري { حَفُيظٌ } [ سبأ : 21 ] شهيد ، لا يغيب عنه إيمان مؤمن ، وكفر كافر ، وشكر شاكر ، وشك شاك ، وإخلاص مخلص . وبعدما أثبت المشركون المصرون على كفران نعم الله أمثال هؤلاء الغواة المذكورين آلهة سوى الله سبحانه ، وسموهم شفعاء وعبدوا لهم مثل عبادته سبحانه { قُلِ } لهم يا أكمل الرسل إلزاماً وتبكيتاً : { ٱدْعُواْ } أيها الضالون المشركون الآلهة { ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ } وأثبتهم { مِّن دُونِ ٱللَّهِ } ليستجيبوا لكم في مهماتكم ، ويستجلبوا لكم المنافع ، ويدفعوا عنكم المضار ، كما هو شأن الألوهية والربوبية ، وكيف تدعونهم لأمثال هذه المهام مع أنهم { لاَ يَمْلِكُونَ } لأنفسهم { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } من الخير والشر والنفع والضر ، لا { فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ } لا استقلالاً ؛ إذ هم ليسوا قابلين للألوهية { وَ } لا مشاركة ؛ إذ { مَا لَهُمْ فِيهِمَا } أي : في خلقهما وإيجادهما { مِن شِرْكٍ } مشاركة مع الله في ألوهيتهم ؛ لأنهم من جملة مخلوقاته ، بل من أدناها ، ولا شركة للمخلوق مع خالقه { وَ } لا مظاهرة ، إذ { مَا لَهُ } سبحانه { مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ } [ سبأ : 22 ] ولا من غيرهم أيضاً ، معاون له في ألوهيته وربوبيته ؛ إذ هو سبحانه منزه عن المعاونة والمظاهرة مطلقاً . { وَ } كذلك ليس لهم عنده سبحانه شفاعة مقبولة حتى يشفعوا لهم ويخلصوهم من عذاب الله بعدما نزل عليهم ؛ إذ { لاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ عِندَهُ } سبحانه من أحد من عباده { إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } بالشفاعة لغيره ؛ لاتصافه بالكمال ، أو بشفاعة الغير من الشرفاء له ؛ لاستحقاقه بالكرامة وإن كان منغمساً بالرذالة ، وبعدما وقعت الشفاعة وأذن بها من عنده سبحانه ، ينتظر الشافعون المشفعون بعد وقوعها وجلين ، خائفين مهابة من سطوة سلطنة جلاله سبحانه { حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ } وكشف الفزع ، وأزيل الخوف والوجل { عَن قُلُوبِهِمْ } أي : قلوب الشافعين والمشفوعين { قَالُواْ } أي : بعضهم لبعض ، أو المشفوعون للشافعين : { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ } في جواب شفاعتكم ، أيقبلها أم يردها ؟ { قَالُواْ } أي : الشفعاء : القول { ٱلْحَقَّ } الثابت عنده ، المرضي دونهن وهو سبحانه يقبل شفاعتنا في حقكم ، وأزال عنكم عذابه { وَ } كيف لا يخافون من الله ولا يهابون - أي : الشفعاء - عن ساحة عز حضوره ؛ إذ { هُوَ } سبحانه { ٱلْعَلِيُّ } ذاته وشأنه ، المقصور المنحصر على العلو ، لا أعلى إلا هو { ٱلْكَبِيرُ } [ سبأ : 23 ] بحسب أوصافه وأسمائه ؛ إذ الكبرياء رداءه ، لا يسع لأحد أن يتردى به سواه .