Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 20-27)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَ } بعدما سمعوا من الرسل ما سمعوا ، صمموا العزم إلى قتلهم واجتمعوا ليرجموهم ، وانتشر الخبر بن أظهر المدينة ، وسعى من يسمع نحوهم حتى { جَآءَ } حينئذ { مِنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ } من السامعين ، وهو حبيب النجار ، وكان مؤمناً موحداً ، يعبد الله ، وكان قد لقي الرسولين الأولين حين دخلا المدينة أولاً ، فسلم عليهما وتكلم معهما ، فقال لهما : من أنتمما ؟ قال : رسولا عيسى النبي عليه السلام ، إنما أرسلنا لندعوكم إلى طريق الحق وننقذكم من عبادة الأوثان ، فقال : أمعكما آية ؟ قالا : ونبرئ الأكمة والأبرص ، فجاء بابنه المريض منذ سنين فمسحاه ، فقام الابن سالماً ، نشفي المريض ، فآمن لهما وصدقهما وانفصل عنهما مؤمناً ، واشتغل بعبادة الله . فدخلا البلد ، وأظهرا الدعوة لأهلها وأنكروا عليهما ، واتفقوا بقتلهما ، فأُخبر الحبيب بذلك ، فجاء على الفور حال كونه { يَسْعَىٰ } ويذهب سريعاً ، فلما وصل المجمع ورآهم مجتمعين عليهما ، فسألهما على رءوس الملأ : من أنتما ؟ قالا : رسولا عيسى النبي عليه السلام ندعوكم إلى توحيد الحق ، قال : هل تسألان الأجر والجعل لرسالتكما ؟ قال : لا ، ما أجرنا إلا على ربنا ، ثم التفت نحو القوم { قَالَ يٰقَوْمِ } ناداهم وأضافهم على نفسه ؛ ليقبلوا منه كلامه ، وكان مشهوراً بينهم بالورع واعتدال الأخلاق : { ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ } [ يس : 20 ] المبعثوين إليكم بالحق ؛ ليرشدوكم إلى طريق الحق وتوحيده ، إنما جمعل المرسلين مع أنهما اثنان ؛ لأن الحبيب منهم حقيقة . { ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً } أي : اتبعوا هادياً بالحق على الحق إلى الحق ، خالصاً لوجه الحق بلا غرض نفساني من جعل وغيره ، كالمشتيخة المزورين الذين يجمعون بتلبيساتهم وتغريراتهم أموالاً كثيرة من الحمقى المتماثلين نحو أباطليهم وتزويراتهم { وَ } كيف لا تتبعون أيها العقلاء الطالبون للهداية والصواب { هُمْ مُّهْتَدُونَ } [ يس : 21 ] مصيبون ، متصفون بالرشد والهداية قولاً وفعلاً . ثم لما سمع القوم من الحبيب ما سمعوا ، عيروه وشنعوا عليه ، وقالوا له : لست أنت أيضاً على ديننا ودين آبائنا ، بل ما أنتم إلا على دين هؤلاء المدعين { وَ } بعدما ما تفرس الحبيب منهم الإكار عليه أيضاً ، قال كلاماً ناشئاً عن محض الحكمة والفطنة على وجه العظة والتذكر لنفسه ؛ ليتعظوا به على سبيل الالتزام ؛ إذ هو أسلم الطرق في العظة والتذكير ، وأدخل في النصيحة والتنبيه : { مَا لِيَ } أي : أيّ شيء عرض عليّ ولحق بي { لاَ أَعْبُدُ } وأتوجه على وجه التذلل والانكسار للمعبود { ٱلَّذِي فَطَرَنِي } على فطرة العبودية ؛ أي : أبدعني وأظهرني من كتم العدم ولم أك شيئاً مذكوراً ، ورباني بأنواع اللطف والكرم وأفاض عليّ من موائد لطفه وإحسانه ، سيما العقل المفاض المرشد إلى المبدأ والمعاد { وَ } كيف لا أعبد وأتوجه نحوه ؛ إذ { إِلَيْهِ } سبحانه الموصوف بالأسماء الحسنى ونعوت الجلال والجمال ، لا إلى غيره من الأوثان والأصنام الحادثة ، الهالكة في ذواتها ، العاطلة عن الأوصاف الكاملة ، المنحطة عن رتبة الألوهية والربوبية { تُرْجَعُونَ } [ يس : 22 ] أنتم أيها الأظلال الهالكون ، التائهون في بيداء ظهوره ، حيارى هائمين رجوع الأضواء إلى شمس الذات ، والأمواج إلى بحر الوحدة الذاتية . { أَ } أنكروا المعبود على الحق ، المظهر لما في الوجود { أَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً } باطلة من الأوثان ، عاطلة عن التصرفات مطلقاً ، منحطة عن رتبة العبودية ، فكيف عن الربوبية والألوهية ؟ ! وسميتهم شفعاء مغيثين لدى الحاجة مع أنه { إِن يُرِدْنِ ٱلرَّحْمَـٰنُ } القادر المقتدر على أصناف الإنعام والانتقام { بِضُرٍّ } أي : مصيبة وسوء يتعلق مشيئته على إنزاله إليّ { لاَّ تُغْنِ } ولا تدفع { عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً } من بأس الله وعذابه ، بل لا تنفعني شفاعتهم أصلاً { وَلاَ يُنقِذُونَ } [ يس : 23 ] بالمعاونة والمظاهرة عن عذابه سبحانه أيضاً . وبالجملة : { إِنِّيۤ } بواسطة اتخاذهم شركاء لله ، شفعاء عنده { إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ يس : 24 ] وغواية عظيمة ظاهرة ؛ إذ اختيار ما لا ينفع ولا يضر على الضار النافع المعطي المانع ، أو ادعاء مشاركتهم معه وشفاعتهم عنده سبحانه من أشد الضلالات وأردأ الجهالات . { إِنِّيۤ } بعدما تفطنت بوحدة الحق واستقلاله في الوجود والآثار { آمَنتُ بِرَبِّكُمْ } الذي هو ربي ورب جميع ما في حيطة الوجود وتحت ظله من الأكوان غيباً وشهادة ، واعترفت بتوحيده واستقلاله بالتصرف في ملكه وملكوته بعدما كوشفت بوحدة ذاته { فَٱسْمَعُونِ } [ يس : 25 ] أيها العقلاء السامعون ، المدركون مضمون قولي ، واتصفوا بما فيه ، وتذكروا به إن كنتم تعلمون . فلما سمعوا منه توصيته وتذكيره ، أخذوا في قتله وهلاكه ، فوطئوه بأرجلهم إلى حيث يخرج أمعاءه من دبره ، وهو في تلك الحالة زاد انكشافه بربه ، واستولى عليه سلطان الوحدة وجذبته العناية الإلهية ، وأدركته الكرامة القدسية حيث { قِيلَ } له من قبل الحق حينئذ : اخرج من هوؤتك وانخلع من أنانيتك { ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ } أي : فضاء الوحدة التي لا فيها وصب ولا نصب ، ولا عناء ولا تعب ، فخرج وانخلع ، فدخل على الفور واتصل ، ثم بعدما وصل إلى ما وصل { قَالَ } متمنياً ، متحسراً لقومه بعدما لحق بفضاء الوصال : { يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ } [ يس : 26 ] . { بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي } وانكشف علي وجذبني نحوه بعدما ستر عني أنانيتي ومحا مني هويتي { وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ } [ يس : 27 ] المكرمين : الآمنين الفائزين المستبشرين الذين { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ يونس : 62 ] .