Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 37, Ayat: 99-110)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وبعد ما خرج الخليل - صلوات الرحمن عليه وسلامه - مها اختار الجلاء والخروج من بينهم بوحي الله إياه وإلهامه { وَ } لهذا { قَالَ } حين خروجه : { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي } وإلى كنف حفظه وجواره وسعة رحمته { سَيَهْدِينِ } [ الصافات : 99 ] بلطفه إلى منزل يمكنني التوجه فيه إليه ويطمئن فيه قلبي ، فذهب إلى الشام بإلهام الله إياه ، وتوطن في الأرض المقدسة . وبعدما توطن فيها ناجى مع الله ، فطلب منه سبحانه الولد المحيي لاسمه ، فقال : { رَبِّ } يا من رباني على أنواع النعم والكرامات { هَبْ لِي } ولداً صالحاً مرضياً لك مقبولاً عندك ، معدوداً { مِنَ } عبادك { ٱلصَّالِحِينَ } [ الصافات : 100 ] الموفقين من عندك على الصلاح والفوز بالفلاح . وبعدما تضرع نحونا راجياً من رحمتنا { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ } هو إسماعيل عليه السلام { حَلِيمٍ } [ الصافات : 101 ] ذو حلم كامل ، وتصير تام على متاعب العبودية وشدائد الاختيارات الإلهية . ثم لما ولد له إسماعيل عليه السلام ، ورباه إلى أن ترقى من الطفولية ، وظهر منه الرشد الفطري والفطنة الجبلية ، إلى أن بلغ سبع سنين أو ثلاث عشرة ، هي أول الحلم وعنفوان الشباب . وبالجملة : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ } للحوائج والمهمات المتعلقة لأمور المعاش ، وصار يذهب ويجيء مع أبيه إلى الاحتطاب وسائل الأشغال ، وكان أبوه ينتصر به في الأمور ويستظهر ، وكان مشفقاً له ، رحيماً عليه بحيث لا يفارقه أصلاً من كمال عطفه وتحننه . ثم لما بلغ عليه السلام في عطف ولده وارتباط قلبه به مع أنه متمكن في مقام الخلة مع ربه ، غار عليه سبحانه فاختبر خلته ، حتى رأى في المنام بإلقاء الله في متخيلته أن الله يأمره بذبح ولده إظهاراً لكمال خلته ، واصطبار ولده على البلاء ، وإظهار حمله عند المصيبة ، فانتبه عن منامه هؤلاً من الواقعة الهائلة ، فخيلها من أضغاث الأحلام ، فاستغفر ربه وتعوذ من الشيطان ، ثم نام فرأى أيضاً كذلك ، ثم استيقظ كذلك خائفاً مرعوباً ، ثم استغفر ونام ، فرأى ثالثاً مثلما رأى ، فتفطن بنور النبوة أنه من الاختبارات الإلهية . فأخذ بامتثال المأمور خائفاً من غيرة الله وكمال حميته وجلاله ، كيف يطيق أحد أن يتخذ سواه محبوباً ، سيما من اختاار الله لخلته واصطفاه لمحبته ، فأمر ابنه بأن يأخذ الحبل والسكين ؛ ليذهب إلى شعب الجبل للاحتطاب كما هو عادتاهما ، فذهبا وقد اشتغل في صدره نار المحبة والخلة والإلهية ، فشرع يظهر رؤياه لابنه ليختبره كيف هو . { قَالَ يٰبُنَيَّ } ناداه وصغَّره تحنناً وعطفاً : { إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } بأمر الله إياي ، تقرباً مني إليه سبحانه ، وهدياً نحوه { فَٱنظُرْ } يا بني وتأمل { مَاذَا تَرَىٰ } أي : أي أمر تفكر وتفتي في هذه الواقعة الهائلة أتصبر على بلاء الله أم لا ؟ . وبعدما سمع ابنه ما سمع من الرؤيا { قَالَ } معتصماً بحبل التوفيق ، راضياً بما جرى عليه من قضاء الله مسلماً نحوه ، مستقبلاً منادياً لأبيه لينبئ عن كمال إطاعته له وانقياده لحكم ربه : { يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ } من قبل الحق ، فاذبحني في سبيل الله تقرباً منك نحوه ، وطلباً لمرضاته ، ولا تلفت إلى لوازم الأبوة والنبوة ، وكن أنت صابراً لبلاء الله بذبح ولدك بيدك بإذنه وفي سبيله { سَتَجِدُنِيۤ } أيضاً { إِن شَآءَ ٱللَّهُ } وتعلق إرادته بأن اصبر على بلائه الذي هو قتل أبي إياي بيده { مِنَ ٱلصَّابِرِينَ } [ الصافات : 102 ] المتكنين على تحمل الشدائد والمصيبات الآتية من قبل الحق . وبعدما تشاورا وتقاولا ، فوَّضا الأمر إليه سبحانه ، وانقادا لحكمه ، ورضيا بقضائه طوعاً ورغبة { فَلَمَّا أَسْلَمَا } أي : سلَّما واستسلما ؛ أي : كل منهما أمره إلى ربه ووصلا الموقف والمنجر ، توجه الخليل نحو الحق ناوياً التقرب إليه سبحانه { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } [ الصافات : 103 ] أي : صرع ابنه على شقه الأيمن امتثالاً لأمر ربه مثل صرع البهائم حال الذبح ، بعدما شدَّ بالحبل يده ورجله ، فأخذ الشفرة فأمرَّها على حلقه ، فلم تمضٍ ولم تعمل ، فأخذ حجراً المحدّ فأحدها ، ثم أمرَّها ، ولم تمضِ أيضاً ، وهكذا فعل مراراً لم تعمل شيئاً فتحير في أمره ، قال له ابنه حنيئذ : يا أبت أكبني على وجهي فاذبحني من القفا ؛ لئلا يمنعك من ذبحي رؤيتك وجهي ففعل كذلك فمل تمضِ . { وَ } بعدما جربناهما ووجدناهما على كمال التصبر والرضا بما جرى عليهما من القضاء { نَادَيْنَاهُ } من مقام عظيم جودنا إياه ولطفنا { أَن } أي : بأن قلنا له منادياً : { يٰإِبْرَاهِيمُ } [ الصافات : 104 ] المختص بخلتنا الراضي بمصيبتنا ، قد صدَّقت الرؤيا وامتثلت بالمأمور ، ورضيت بذبح ولدك لرضانا ، واختبرناك به فوجدناك متمكناً على مرتبة الخلة والتوحيد ، فقد أتيت مخلصاً ما طلبنا منك ، كان لك من الفضل والعطاء منَّا جزاء لفعلك ما لم يكن لأحد من بني نوعك ؛ لإخلاصك في أمرك وصحة عزيمتك وخلوص طويتك في نيتك . ثم قال سبحانه على سبيل العظة والتذكير لعباده بمقتضى عظيم جودنا : { قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ } أي : مثل ما جزينا إبراهيم ونجيناه من الكرب العظيم { نَجْزِي } جميع { ٱلْمُحْسِنِينَ } [ الصافات : 105 ] المخلصين في حسناتهم ونياتهم ، في جميع أعمالهم وحالاتهم . ثم قال سبحانه : { إِنَّ هَـٰذَا } المأمور لإبراهيم الأوَّاه الحليم من ذبح ولده في طريق الخلة مع ربه { لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ } [ الصافات : 106 ] الظاهر صعوبته وشدته على عموم المكلفين . وبعدما عزم عليه بالعزيمة الخالصة الصحيحة ، وأقدم على امتثاله عن محض الاعتقاد وصميم الفؤاد إلى حيث لو لم نمنع مضاء شفرته ، مع أنه بالغ في إمرارها بقوة تامة ، وأحدَّها مراراً لذبحه ألبتة ، فمنعناها بعدما ظهر إخلاصه لدينا . { وَ } بعدما منعنا مضاء شفرته { فَدَيْنَاهُ } أي : الذبح الذي هو ابنه { بِذِبْحٍ } أي : بما يذبح فيه فيتم تقربه إلينا ، وينال من لدنَّا ما نعدّ له من الثواب والجزاء { عَظِيمٍ } [ الصافات : 107 ] أي : عظيم القدر ؛ إذ ما يفديه الحق لنبيه أعظم مما يفديه العباد . قيل : لما سمع إبراهيم نداء الهاتف ، التفت فإذا هو جبريل عليه السلام ، ومعه كبش أملح أقرن ، فقال له : هذا فداء ابنك بعثه الله إليك ، فاذبحه دونه ، وهذا قد رعى في الجنة أربعين خريفاً لتلك المصلحة ، فأخذ إبراهيم الكبش ، فأتى به المنحر من مِنى فذبحه عنده ، وفاز بمبتغاه من الله ما فاز عاجلاً وآجلاً ، مما لا مجال للعبارة والإشارة إليه سبيلاً . { وَ } من جملة ما جزينا إبراهيم عاجلاً : إن من كمال خلتنا معه { تَرَكْنَا عَلَيْهِ } وأبقينا له في الآخرين ؛ أي : في الأمم الذين يلون ويأتون بعده إلى قيام الساعة ثناءً حسناً وذكراً جميلاً ، حيث يقولون دائماً { فِي ٱلآخِرِينَ * سَلاَمٌ } [ الصافات : 108 - 109 ] وترحيب منا وبركات من الله ، ورحمة نازلة دائماً مستمرة { عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } [ الصافات : 109 ] . ثم قال سبحانه حثاً للمؤمنين : { كَذَلِكَ } أي : مثل ما جزينا إبراهيم بأحسن الجزاء في الدنيا والآخرة { نَجْزِي } عموم { ٱلْمُحْسِنِينَ } [ الصافات : 110 ] إن أحسنوا وأخلصوا في نياتهم وحسناتهم .