Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 50, Ayat: 16-35)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَ } بالجملة { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ } وأظهرناه من كتم العدم { وَ } نحن { نَعْلَمُ } منه حنيئذ { مَا تُوَسْوِسُ } وتحدث { بِهِ نَفْسُهُ } وتخطر بباله الآن من أمثال هذه الأوهام والخيالات الباطلة ، والمترتبة على حصة ناسوته ، المقيدة بسلاسلا الرسوم وأغلال العادات الموروثة له من العقل الفضول ، الممتزج بالوهم بسلاسل الرسوم وأغلال العادات الموروثة له من العقل الفضول ، الممتزج بالوهم الجهول { وَ } كيف لا نعم من هواجس نفسه ؛ إذ { نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } [ ق : 16 ] أي : وريده ، وهو مثل من القرب المفرط ، كما قال : الموت أدنى لي من الوريد ، وإضافة الحبل إليه للبيان ، وبالجلمة : نحن أقرب إليه منه . الوريدان : هما العرقان المنبثان من مقدم الرأس ، المتنازلان من طرفي العنق ، المتلاصقان عند القفا ، المنتهيان إلى آخر البدن ، وهما قوام البدن ومداره عليهما ؛ إذ هما أقوى عالم هيكل الإنسان . وبالجملة : نحن حسب روحنا المنفوخ فيه من عالم اللاهوت أقرب إليه من ناسوته ، لا على توهم المساففةن ولا على طريق التركب والاتحاد والحلول والامتزاج ، بل على وجه الظلية والانعكاس ، ومع غاية قرب الحق إليه وكمال إحاطته إياه ، وكَّل عليه الحفظة من الملائكة ؛ ليراقبوا أحواله إلزاماً للحجة عليه لدى الحاجة يوم القيامة . اذكر يا أكمل الرسل : { إِذْ يَتَلَقَّى } ويتحفظ { ٱلْمُتَلَقِّيَانِ } الموكلان عليه { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } [ ق : 17 ] أي : قاعد كل من الموكلين عن يمنه وشماله ، مترقبين على أحواله وأعماله وأقواله ، بحيث { مَّا يَلْفِظُ } ويتلفظ { مِن قَوْلٍ } يرميه من فيه { إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ } حفيظ عليه { عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] مهيأ ، معد ، حاضر عنده ، غير مغيب على وجه لا يفوت عنه شيئاً من ملتقطاته . { وَ } هما يحفظانه ويرقبان عليه وقت ؛ إذ { جَاءَتْ } وحضرت { سَكْرَةُ الْمَوْتِ } شدته وغمراته { بِالْحَقِّ } والحقيقة وظهرت علاماته ، وانكشفت عليه أهواله وأماراته ، قيل له حينئذ من قبل الحق : { ذَلِكَ } أي : الموت الذي ينزل عليك الآن { مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } [ ق : 19 ] أي : الموت الذي أنت تميل ، وتفر عنه فيما مضى . { وَ } بعدما ذاق مرارة العذاب وقت سكرات الموت { نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ } للبعث والحشر ، فإذا هو حينئذٍ قائم ، هائم ينظر ، قيل له من قبل الحق على سبيل التهويل : ألست تنظر وتتحير يا مسكين ؟ ! { ذَلِكَ } اليوم الذي أنت فيه الآن { يَوْمُ ٱلْوَعِيدِ } [ ق : 20 ] الموعود لك في دار الدنيا ، وأنت حينئذ لم تؤمن به ولم تخف من أهواله حتى وقعت فيه ، وذقت من عذابه . { وَ } بعدما بعث الأموات من أجداثهم للحشر والجزاء { جَآءَتْ } وحضرت { كُلُّ نَفْسٍ } من النفوس الطيبة والخبيثة { مَّعَهَا سَآئِقٌ } موكل ، يسوقها إلى المحشر للعرض والجزاء { وَشَهِيدٌ } [ ق : 21 ] من حفظة أعمالها وأحوالها ، يشهد لها وعليها . وبعدما حضر كل منهم بين يدي الله ، قيل لكل منهم من قِبل الحق على سبيل الخطاب والعتاب : { لَّقَدْ كُنتَ } أيها المغرور { فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا } اليوم ، وانكسار عظيم من وقوعه ؛ لذلك كذبت بالرسل والكتب ، واستهزأت بالهداة الثقات ، واستكبرت عليهم { فَكَشَفْنَا } اليوم { عَنكَ غِطَآءَكَ } الذي هو سبب غفلتك وإنكارك ، وتعاميك عن الآيات والنذر ، وهو ألفك بالمحسوسات العادية وإنكارك على الأمور الغيبية الخارجة عن حيازة حواسك وقواك { فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ ق : 22 ] أي : صار بصرك بعد انكشافك بهذا اليوم حاداً حديداً نافذاً ، إلا أنه لا ينفعك حينئذ حدة بصرك واكشافك بعد انقراض نشأة الاختبار والاعتبار . { وَقَالَ } له حينئذ { قَرِينُهُ } من الحفظة المراقب عليه في النشأة الأولى : { هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } [ ق : 23 ] أي : هذا الذي سمعت الآن من الخطاب والعاب ، هو الذي حفظته لك عندي ، وكتبته في صحيفة عملك قبل وقوعك فيه . وبعدما جرى بين كل من العصاة وبين قرينهم ما جرى ، أمر من قِبل الحق للسائق والشهيد أمراً وجوبياً حتماً : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } واطرحا فيها { كُلَّ كَفَّارٍ } مبالغ في الكفر والإنكار { عَنِيدٍ } [ ق : 24 ] مبالغ متناه في العناد والاستكبار . { مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ } متبالغ في المنع عن الإنفاق المأمور { مُعْتَدٍ } متجاوز عن الحق ، مائل نحو الباطل { مُّرِيبٍ } [ ق : 25 ] موقع لعباد الله في الشك والشبة في دينه القويم والصراط المستقيم الذي أنزله على رسوله المتصف بالخلق العظيم ، وهو { ٱلَّذِي جَعَلَ } وأثبت { مَعَ ٱللَّهِ } الواحد الأحد الصمد ، المنزه عن الشرك مطلقاً { إِلَـٰهاً آخَرَ } واعتقده موجداً مثله ، شريكاً في أفعاله وآثاره ، وبالجملة : { فَأَلْقِيَاهُ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ } [ ق : 26 ] بدل ما تجاوز عن التوحيد الإلهي ، وأصر على الشريك والتعديد . وبعدما أراد الموكلان أن يبطشا به ويجراه نحو النار ، أخذ يصرخ ونسيب شركه وضلاله إلى الشيطان المضل المغوي ، وهو حاضر عنده ، وبعدما سمع الشيطان منه ما سمع { قَالَ } له حينئذ { قرِينُهُ } أي : الشيطان ، متضرعاً إلى الله ، مناجياً معه : { رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ } وأضللته { وَلَـٰكِن كَانَ } في نفسه { فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } [ ق : 27 ] بمراحل عن الهداية بمقتضى أهويته وأمانيه الفاسدة . وبعدما اختصم الكافر وقرينه عند الله { قَالَ } الله سبحانه : { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ } ولا تنازعوا عندي ؛ إذ لا نفع لكم الآن في الخصومة والنزاع { وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم } في كتبي وعلى ألسنة رسلي { بِٱلْوَعِيدِ } [ ق : 28 ] الهائل ، والعذاب الشديد على أهل الشرك والطغيان والكفر والكفران ، فالحكم على ماجرى لا تبديل وتغيير . إذ { مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ } والحكم { لَدَيَّ } بل المقدر في علمي كائن على ما ثبت وكان على مقتضى العدالة والقسط الحقيقي { وَ } بالجملة : { مَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ ق : 29 ] أي : ليس من شأني الظلم والتعدي على عبيدي ، بل هم يظلمون أنفسهم ، فيستحقون العقوبة على قدر عصيانهم . اذكر يا أكمل الرسل للعصاة والكفرة المشركينن ، المصرين على العناد والإنكار { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ } المعدة لجزائهم ، سؤال تخييل وتصوير حين طرحت عليها أفواج الكفرة والعصاة : { هَلِ ٱمْتَلأَتِ } جهنم من شدة تلهبها وتسعرها بإطاق الله إياه : { وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ] من المطروحين حتى يطرح ما بقي من أهلها إلى أن تمتلئ إنجازاً لما وعد لها الحق ، نقول لجهنم : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ هود : 119 ] . { وَ } اذكر أيضاً للمؤمنين المطيعين يوم { أُزْلِفَتِ } وقربت { ٱلْجَنَّةُ } الموعودة { لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } [ ق : 31 ] بل بحيث يرون منازلهم فيها قبل دخولهمم من غاية قربها ، وتمنون الوصل إليها . فيقال لهم حيئنذ : { هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ } رجاع ، تواب إلى الله عن عموم زلاته ومطلق فرطاته في نشأة الاختبار { حَفِيظٍ } [ ق : 32 ] لتوبته على وجه الندم والإخلاص ، بلا توهم عودٍ ورجوع عليها أصلاً . وبالجملة : { مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ } واجتنب عن محارمه منهياته ، خائفاً من سخطه ، راجياً من سعة رحمته في نشأة الاعتبار والاختيار قبل انكشاف السرائر والأستار وحلول النشأة الأخرى ، ورضي بالتكاليف الإلهية ، ووطن نفسه بامتثال عموم الأوامر والنواهي ومطلق الأحكام الجارية على ألسنة الرسل والكتب { وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } [ ق : 33 ] إلى الله ، مخلصاً في إطاعة الله وإطاعة رسوله . قيل لهم حينئذ من قبل الحق على وجه التبشير : { ٱدْخُلُوهَا } أي : الجنة المعدة لأرباب التقوى { بِسَلاَمٍ } حال كونكم سالمين آمنين من العذاب { لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } [ الأعراف : 49 ] { ذَلِكَ } اليوم الذي أنتم فيه الآن { يَوْمُ ٱلُخُلُودِ } [ 34 ] في الجنة الموعودة لأرباب العناية والشهود . جعلنا الله من زمرتهم بمنِّه وجوده . وبالجملة : { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا } من اللذات الحسية والعقلية المحاطة بمداركهم وآلاتهم ، بل { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } [ ق : 35 ] على ما يسألون حسب استعداداتهم ، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .