Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 93-98)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم أخبر عن أهل الصدق والعرفان وأهل الاختلاف والخذلان بقوله تعالى : { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ } [ يونس : 93 ] قوله تعالى : { بَوَّأْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } يشير بإسرائيل إلى الروح العلوي ، وببنيه إلى القلب والسر فإنهما من لذات دون النفس ؛ لأنها إن كانت من مولداته ولكنها من البنات لا من البنين { مُبَوَّأَ صِدْقٍ } منزلاً عليّاً في جوار الروح أتى طبعاً . { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ } [ يونس : 93 ] أي : من الفيض الرباني الفائض الروح العلوي بأنهما خلقا متصفين بصفات الروح ، وما يلي إلى عالم العلوي من الحضرة من صفة الرحمانية فيفيض من الروح على القلب ؛ لأن القلب من الروح بمنزلة العرش من الرب وهو محل استواء صفة الرحمانية من الرب يعني : محل ظهوره هذه الصفة الاختصاصية بقبول فيض هذه الصفة أولاً ، كذلك مستوى عرش القلب وهو قابل الفيض الروحانية أولاً ، فكل ما فاض من صفة الرحمانية على الروح يفيض الروح على القلب والسر ، فافهم جدّاً . { فَمَا ٱخْتَلَفُواْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ } [ يونس : 93 ] أي : ما اختلف القلب والسر من وصف خلقهما على الصفات الروحانية حتى جاءهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحكام القرآن ، وأركان الشريعة ، والسير إلى الله تعالى على أقدام الطريقة ، والوصول إلى عالم الحقيقة ، وذلك عند البلوغ وجذب تكاليف الشرع ، المقبل من قبلها صار مقبولاً ، والمدبر من دبرها فصار مردوداً ، وأيضاً بقوله : { مُبَوَّأَ صِدْقٍ } [ يونس : 93 ] أي : بين الأصبعين من أصابع الرحمن ، فإنه مأوى القلوب متوجهين إلى حضرت الجلال ، { فَمَا ٱخْتَلَفُواْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ } [ يونس : 93 ] ؛ أي : ما تغيروا عن أحوالهم حتى أدركهم علم الله الأزلي بما قدر وقفي فيهم بالسعادة والشقاوة ، فأقام قلوب أهل السعادة على الطاعة والعبودية ، وقبول الدعوة ، وطلب الحق ، وأزاغ قلوب أهل الشقاوة عنها إلى المعصية والتمرد ورد الدعوة وترك الحق . { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ } [ يونس : 93 ] بالقبول والرد ، { يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [ يونس : 93 ] على قدر اختلافهم وتغير أحوالهم ، { فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ يونس : 93 ] بأقوالهم وأعمالهم وأحوالهم ، قال : الأعمال نتائج الأحوال ، والأقوال من نتائج الأعمال . ثم أخبر عن أهل الشك والتكذيب وأهل الحجج والتقريب بقوله تعالى : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ } [ يونس : 94 ] إلى قوله : { وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ } [ يونس : 98 ] . قوله : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ } [ يونس : 94 ] أي : مما خصصناك به من سائر الأنبياء والمرسلين من خصوصية ختم النبوة ، وخيرية الأمة ، وإعطائك الحق المودود والمقام المحمود ، وغير ذلك من المواهب السنية والمراتب العلية مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . { فَاسْأَلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَءُونَ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ } [ يونس : 94 ] فإنا قد بينا في الكتب المنزلة طرفاً عن علو قدرك ، وعظم شأنك ، ورفعة مكانك ، ورتبة سلطانك ؛ ليتحقق لك ويتبين عندك أن ما جاءه من الحق فهو حقك لا تغير فيه ولا تبديل ، وذلك أن الله تعالى خلق الإنسان ضعيفاً فصبر النظر وفي الهمة ، فإذا أنعم عليه بفتح باب الكرامات وهبوب رياح السعادات يكتال عليه بأدنى الكيل ما يضيق به ذرعه وينكسر به فرعه ، فلا يحمل ما يحتمل عليه ، ولا يتحقق ما ينفعل به لديه ، فيقلن : أنه مما يخادع به الأطفال وشك فيما يصادفه من الآمال ، بل هو من كرامة الأحياء ، أو من وخامة الابتلاء . فكان النبي صلى الله عليه وسلم من خصوصية { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } [ الكهف : 110 ] يرتع في هذه الرياض باختصاص { يُوحَىٰ إِلَيَّ } [ الكهف : 110 ] يسقى بكاسات المناولات من تلك الحياض ، فشك عند سكره من شراب الوصال إذا أدبر عليه بإقدام الجمال والجلال أنها في شهود التلوين ، أو من كشوف التمكين حتى أدركته العناية الأزلية والسابقة الأولية فأكرم بخطاب : { لَقَدْ جَآءَكَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } [ يونس : 94 ] فتحقق الاجتباء ، وزال عنه الأسر لما بدل سكره بالصحو ، وزالت صفات بشريته إلى المحو ، بل كان هذا فما كان النهي نهي التكوين به كلام الأزلي فخاطبه في الأزل وهو بعد في العدم . { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ } [ يونس : 94 ] ممترياً كما قال : { تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَٰهِلِينَ } [ الأنعام : 35 ] فما كان جاهلاً ، فلهذا قال صلى الله عليه وسلم : " لا أشك ولا أسأل " . { إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } [ يونس : 96 ] وهي قوله : هؤلاء في النار ولا أبالي ؛ أي : وجبت عليهم النار سبق هذه الكلمة فيهم ، { لاَ يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 96 ] { وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ } [ يونس : 97 ] لأنهم خلقوا مستعدين للعمى والضلالة ، كما قال الله تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً } [ الأعراف : 179 ] ، وقال : { أَفَأَنْتَ تَهْدِي ٱلْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ يونس : 43 ] فهؤلاء خلقوا ليكونوا مظهر صفات الذين لا يؤمنون ، { حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } [ يونس : 97 ] وهو عذاب البعد وألم الفراق . ثم أخبر أن إيمان الناس ما قبل عن قوم إلا قوم يونس عليه السلام فقال تعالى : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ } [ يونس : 98 ] وذلك لأن أقواماً آخرين آمنوا حين عاشوا العذاب وغشيهم بقية مثل : فرعون وقومه ، وقوم لوط ، وقوم نوح وغيرهم من الأمم فآمنوا حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل ، أو كسبت في إيمانها خيراً ، وما آمنوا بالغيب ، وإنما الإيمان للقبول هو الإيمان بالغيب كقوله تعالى : { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } [ البقرة : 3 ] وقوم يونس عليه السلام لمَّا أصبحوا رأوا غيماً العذاب كما وعدهم يونس عليه السلام آمنوا وصدقوا يونس فيما وعدهم قبل العيان ، وكان إيمانهم بالغيب ، وتابوا إلى الله بالصدق ، { دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [ يونس : 22 ] بالتضرع والابتهال ، فاستجاب الله دعوتهم وقبل توبتهم . ومن أمارة سعادتهم أنه ما جاءهم العذاب بغتة كما جاء لأقوام آخرين كقوله تعالى : { تَأْتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ يوسف : 107 ] وأنهم مكنوا حتى التجاؤا إلى الله تعالى ودعوه مضطرين ، فإنه من سنة كرمه تعالى أن يجيب المضطر إذا دعا وما يكن غيرهم للالتجاء وخلوص الدعاء ، فكان إيمان قوم يونس عليه السلام إيماناً حقيقياً مقبولاً كما قال تعالى : { لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ } [ يونس : 98 ] بالإيمان والأعمال الصالحة ، { إِلَىٰ حِينٍ } [ يونس : 98 ] آجالهم .