Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 53-57)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم قال : إظهار للعجز من نفس والفضل من ربه ، { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ } [ يوسف : 53 ] يعني : خلقت النفس على جبلة الأمارية بالسوء طبعاً حين خليت إلى طبعها لا يأتي منها إلا الشر ولا تأمر بالسوء ، ولكن إذا رحمها ربها ونظر إليها بنظر العناية يقبلها من طبعها ويبدل صفاتها ، ويجعل أماريتها مبدلة بالمأمورية وشريتها بالخيرية ، فإذا تنفس صبح الهداية في ليلة البشرية وأضاء أفق سماء القلب صارت النفس لوامة تلوم نفسها على شر فعلتها ، وندمت على ما صدر عنها من الأمارية بالسوء ، فيتوب الله عليها فان الندم توبة ، وإذا طلعت شمس العناية من أفق الهداية صارت النفس ملهمة إذ هي تنورت بأنوار شمس العناية فألهمها نورها فجورها وتقواها ، وإذا بلغت شمس العناية وسط سماء الهداية وأشرقت الأرض بنور ربها صارت النفس مطمئنة مستعدة لخطاب ربها بجذبة { ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } [ الفجر : 28 ] ، { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ } [ يوسف : 53 ] لنفس تائبة راجعة إليه ، { رَّحِيمٌ } [ يوسف : 53 ] لمن أحسن طاعته وعبوديته . { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } [ يوسف : 54 ] ، ويشير إلى أن ملك الروح لمَّا وقف على حسن استعداد يوسف القلب ، وأن له اختصاصاً بالله في علم تأويل ما يرى الروح ما أراه الحق تعالى من مكنونات الغيب ، ولم يعلم حقيقته إلا أن يؤوله القلب له بما خص الله تعالى القلب بالنظر إليه ، وهو ينظر بنور الله الذي هو من خصوصيته نظر الله تعالى إليه فيرى حقائق الأشياء بالنور ، فالروح تسعى في خلاص القلب عن سجن صفات البشرية ؛ ليكون خالصاً له في كشف حقائق الأشياء ، ولم يعلم أنه خلق لإصلاح جميع رعايا مملكته روحانية وجسمانية ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن في جسد ابن آدم لمضغة إذا أصلحت صلح بها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد ألا وهي القلب " . وللقلب اختصاص آخر بالله تعالى دون سائر المخلوقات فهو به خالصته للحق دون الخلق وهو قوله : " لا يسعني أرضي ولا سمائي ، وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن " وهذا كما كان حال ملك مصر مع يوسف لمَّا رأى أن له علم تأويل رؤياه الذي هو بمعزل عن عمله قال : { ٱئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } [ يوسف : 54 ] لمَّا علم أنه خلق لإصلاح جميع رعاياها ملك مصر وغيرها ، وهو خالصة الله تعالى لا يصلح أن يكون خالصة للملك ، ولكن الله تعالى استحسن من الملك إحسانه مع يوسف واستخلاصه من السجن ، فما أحسن إليه بأن رزقه الإيمان ، واستخلصه من سجن الكفر والجهل ، وجعله خالصته بحضرته بالعبودية ، وترك الدنيا وزخارفها ، وطلب الآخرة ودرجاتها . { قَالَ } يوسف القلب لملك الروح { ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ } [ يوسف : 55 ] أي : خزائن أرض الجسد ، فإن لله تعالى في كل عضو من أعضاء ظاهر الجسد وباطنه خزانة من اللطف والقهر فيها نعمة أخرى ، كالعين فيها نعمة البصر فإن استعملها في رؤية البصر ورؤية الآيات والصنائع فيجد اللطف وينتفع به ، وإن استعملها في مستلذاتها وشهوات النفس ولم يحفظ نفسه منها فتجد القهر ويضره ذلك ، وقس الباقي على هذا المثال ، ولهذا قال يوسف : { إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [ يوسف : 55 ] أي : حافظ نفسي فيها عمَّا يضرها عليم بنفعها وضرها واستعمالها فيما ينفع ولا يضر . { وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } ليوسف القلب ، { فِي ٱلأَرْضِ } أرض الجسد ، { يَتَبَوَّأُ مِنْهَا } أي : يتصرف في جميع الأعضاء ، { حَيْثُ يَشَآءُ } [ يوسف : 56 ] من تلك الخزائن ، { نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ } [ يوسف : 56 ] يشير إلى أن إصابة اللطف من تلك الخزائن دون القهر موكلة إلى مشيئة الله تعالى لا إلى مشيئة الخلق ، فإن الخلق لو وصلوا إلى شيمهم ومشيئتهم أصابوا من تلك الخزائن باستعمالهم نعمها في مشتهيات نفوسهم القهر الموجع فيها دون اللطف . { وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 56 ] أي : الحافظين نفوسهم عن هواها وشهواتها العالمين بالتصرف في تلك الخزائن على وفق الشرع وخلاف الطبع ، { وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ } [ يوسف : 57 ] أي : رفعة الدرجات الأخرويات والنعم الباقيات ، { خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يوسف : 57 ] من الشهوات الدنيويات الفانيات بالطاعات والقربات ، فلمَّا تمكن يوسف القلب في حمي مملكة مصر الجسد بالتأييد الرباني ، وصارت خزائن أرض الجسد تحت تصرفه واحتاجت رعايا الأعضاء والجوارح إليه حتى أوصاف البشرية التي هي بمثابة إخوة يوسف فجاءوا إليه في طلب الميسرة .