Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 28-32)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم أخبر عن أهل العناية من حافظي الولاية بقوله تعالى : { لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ } [ آل عمران : 28 ] ، الإشارة في الآيتين : لا يتخذ المؤمنون الكافرون { أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 28 ] ؛ أي : من إمارة الإيمان أن لا يمكن للمؤمن من سؤالات الكفار ومودتهم ؛ لأنهم أوثق عدوى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ، وإن مودة الكفار وموالاتهم كفر ، كما أن الرضاء بالكفر كفر ، والضدان لا يجتمعان ، فلا يجتمع في قلب المؤمن حب الله ورسوله والمؤمنين وحب الكافرين أبداً ؛ لقوله تعالى : { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ } [ آل عمران : 28 ] ؛ يعني : من يتخذ الكافرين أولياء { فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءٍ } [ آل عمران : 28 ] ؛ أي : من محبة الله في شيء ، وفيه إشارة أخرى : إن القلب المؤمن ؛ هو الذي لا يتخذ الكافرين من النفس الأمارة والشيطان والهوى والدنيا أولياء من دون المؤمنين ، من الروح والسر وصفاتهما ، { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ } [ آل عمران : 28 ] ، قلب من القلوب ؛ فليس ذلك القلب من الله من أنواره وألطافه ومواهبه ونظر عنايته ورحمته في شيء ، { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً } [ آل عمران : 28 ] ؛ يعني : إلا أن تخافوا من هلاك النفوس ؛ هي مركب الروح ، فرجوعها إلى الحضرة الربوبية تسير إلى الحق فيواسيها ويداريها ؛ لئلا يعجز عن السير في الرجوع ويهلك في الطريق من كثرة معادات القلب ومخالفة هواها وشدة ارتياحها ، { وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } [ آل عمران : 28 ] ؛ أي : ذاته ، والمراد منه : صفات قهره ؛ لأن ذاته تعالى موصوف بصفات اللطف وصفات القهر ، والتحذير لا يكون إلا من صفات القهر ، والإشارة فيها : إن موالاة النفس معاداة الحق ، فمن كان حاله معاداة الحق فلا بد من المصير إليه ، ففي يوم يكون { وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ } [ آل عمران : 28 ] ، لا خفي من الله إلا القهر والعداوات ، ولا يخطئ منه إلا بعذاب البعد وعقاب الهجران . { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ } [ آل عمران : 29 ] ، من معاداة الحق في ضمن موالاة النفس بدعوى الإيمان والإسلام وسلام محبته ، { أَوْ تُبْدُوهُ } [ آل عمران : 29 ] ، بمخالفات أوامره ونواهيه ، وموافقات دواعي النفس وشهواتها ومتابعة هواها ، { يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ } [ آل عمران : 29 ] ، بالقليل والكثير ، والنفير والقطمير ، { وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ } [ آل عمران : 29 ] ، قلوبكم من موالاة النفس ومعاداة الحق { وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ آل عمران : 29 ] ، نفوسكم من مخالفات الحق وموافقات الهوى ، فيجازيكم على قدر الموالاة والمعاداة بقوله تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً } [ آل عمران : 30 ] ، إشارة في الآية : إن يوم القيامة { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً } [ آل عمران : 30 ] ، أثره في ذاتها وصفاتها ، وكذلك ما عملت من شر ، وذلك الأشر كان معها في الدنيا محضراً ، ولكن نظر النفس كان محجوباً بحجاب الغفلة ، لم تكن تجده محضراً معها ، فإذا كشف عنه الحجاب تجده حاضراً معها ، كما قال تعالى : { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ ق : 22 ] ، وقال تعالى : { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً } [ الكهف : 49 ] ، فمن عمل اليوم خيراً يؤثر نور ذلك الخير في قلبه فيض وجه قلبه ، ومن عمل شراً يؤثر ظلمة ذلك الشر في قلبه فيسود وجهه ؛ { فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا } [ ق : 22 ] ، فيكون وجوه أهل الخير بلون قلوبهم ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [ آل عمران : 106 ] ، وجوه أهل الشر تكون بلون قلوبهم ، كما قال تعالى : { وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } [ آل عمران : 106 ] ، فإن حية الكفر لدغتهم وهم في غفلة الناس نيام ، فلم يذوقوا عذابها ، فلما ماتوا انتبهوا ، قيل لهم : { فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ } [ آل عمران : 106 ] ، لعلك تنتبه { وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ } [ آل عمران : 30 ] ، فمن رأفته مع عباده يحذرهم نفسه ؛ أي : يحذرهم أعمالاً وأحوالاً تمنعهم عن الوصول إليه ، وينذرهم إكراماً عن رأفته المخصوصة بعباده الواصلين إليه . ثم أخبر عن طريق الوصول أنه متابعة الرسول بقوله تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] ، والسر فيه : إن المؤمن من يكون أشد حباً لله عما سواه ، والحب على قدر محبته يتبع النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى قدر إتباع المحبة يحبه الله ؛ يعني : فالإتباع ثلاث درجات ، ولمحبة الله للمحب التابع على حسب الإتباع ثلاث درجات : فأما درجات الاتباع الأولى : درجة العوام المؤمنين ؛ وهي متابعة أفعاله صلى الله عليه وسلم ، والثانية : خواص المؤمنين ؛ وهي متابعة أخلاقه صلى الله عليه وسلم . والثالثة : أخص الخواص ؛ وهي متابعة أحواله صلى الله عليه وسلم . أما درجات محبة المحب : فالأولى : محبة العوام ؛ وهي مطالعة المنة من رؤية الحسان المحسن ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " جبلت القلوب على حب من أحسن إليها " ، وهذا حب يتغير بتغير الإحسان ، وهو من باب الأفعال المتابع الأعمال ؛ وهم يطمعون أجراً على ما يحتملون من نتائج الحب ، قال أبو الطيب ثم أخبر : @ ضعيف الهوى يرجى عليه ثواب وما أنا بالباغي على الحب رشوة @@ والثانية : محبة الخواص ؛ وهي محبة تنشأ من مطالعة شواهد الكمال عند تجلي صفات الجلال والجمال ، وهذه محبة المقربين يحبون إعظاماً وإجلالاً له ؛ لاطلاعهم على كمال جماله وعظمة صفات كماله وهذا حب التعظيم والإجلال لوجه الله تعالى ، فذلك هو الباقي على الأبد لبقاء الصفات على السرمد ، ويزيد بازدياد المعرفة ، قالت رابعة العدوية : @ أحبك حبين حب الهوى وحباً لأنك أهل لذاكا @@ وهذه المحبة هي التي تبعث على إيثار الحق تعالى على غيره ، لما يتجلى له من معاني صفات في مدارج آياته ؛ وهي لنبع أخلاقه صلى الله عليه وسلم فيضبط هذا المحب في هذه الدرجة إلى إطراح ذكر غير الله عن قلبه ، متقلباً بين النظر إلى جماله مرة وإلى جلاله أخرى ، لهجاً بلسانه بذكره موقوفة أعضاؤه على تعبده إجلالاً وإعظاماً ، سأعبد الله لا أرجوا توبة لكن تعبد إعظام وإجلال . والثالثة : محبة أخص الخواص ؛ وهي غاية القصوى للعبد ولا غاية لها ، وهي محبة حافظة تقطع العبارة وترفق الإشارة ولا تنتهي بالنعوت ، وهذا بخلاف المحبين الأولين إذ ليست هذه منشأة عن رؤية النعم والإحسان التي من باب الأفعال ، ولا من رؤية الصفات من الجمال والجلال ؛ بل جذبة من جذبات الحق المنشأة من المحبة القديمة في سر " كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف ، فخلقت الخلق ؛ لأعرف " ، وأهل هذه المحبة هم : المستعدون لكمال المعرفة بسبق العناية ، كما قال تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ } [ الأنبياء : 101 ] ، وقد سمي الله تعالى محبته لهم في الأزل بلا علة بالحسنى منه في حقهم ، وقال مخبراً عن محبته الأزلية لهم : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] ، إشارة منهم إلى : إنهم ما أحبوه حتى أحبهم هو أزلاً ، فمحبتهم له لمحبته لهم ، وذلك أن محبته لهم في الأزل من غير علة ، فلما استخرجهم من ظهر آدم تجلت محبته على قلوبهم ، فجذبتها عنهم إليه وأفنتهم عن أنفسهم ، فدخلوا الدنيا على ترك الصفة . قال بعضهم : غُذِينَا بالمحبة يوم قالت له الدنيا : { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] . وحقيقة المحبة : أن تفني المحب بسطوتها وتبقي المحبة منه بلا هو ، كما أن النار تنقي الحطب بسطوتها وتبقى النار بلا هو ، فإن المحبة نار { لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ } [ المدثر : 28 ] ، وأما درجات محبة الله للعبد ؛ فاعلم : أن كل صفة من صفات الله تعالى من العلم والقدرة والإرادة وغيرها ، وإن اتفقت في أسماء صفات خلقه فلا يشبه حقيقتها أوصاف الخلق البتة ، حتى الوجود الذي يعم الخلق والمخلوق جميعاً وذلك ؛ لأن الوجود الخلق عن عدم ووجود الخالق واجب لنفسه ، ووجود كل ما سواه [ مستمد ] منه ، ومن وفق النظر على أن ليس في الكون إلا الله وأفعاله حسنة وكأنه ليس في الوجود شيء ثابت إلا هو وحده ، قرأ القارئ بين يدي الشيخ أبي سعيد بن أبي الخير - رحمه الله - قوله تعالى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] ، فقال : بحق يحبهم ؛ لأنه لا يحب إلا نفسه ؛ على معنى أن ليس في الكون إلا هو وما سواه فهو من صنعه ، والصانع إذا مدح صنعه فقد مدح نفسه فإذاً لا تتجاوز المحبة نفسه قائمة بنفسها ، وما سواه قائم به فهو لا يحب إلا نفسه ، فإذا عرفت هذا فاعلم أن محبة الله تعالى للخلق عائدة إليه حقيقة ، إلا أنه كان قمرها على الخلق فيجب تعلقها بالعام والخاص ، وأخضر أنبت لكل صنف منهم سعادة يخطى بها عند مرورها عليه ، إلا أن تنتهي إلى محلها الذي صدرت منه ، فيكون المحبة والمحب والمحبوب ، واحداً فصدرت المحبة عن محل " كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فمررت على فخلقت الخلق ؛ لأعرف " ، فما تعلقت إلا بأهل المعرفة ؛ وهم المخصوصون بالأنعام ، كما قال تعالى : { فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ … } [ النساء : 69 ] ، فتعلقت بالعام من أهل المعرفة بالرحمة ومشربهم الأعمال ، فقيل لهم : { فَٱتَّبِعُونِي } [ آل عمران : 31 ] ، بالأعمال الصالحة { يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] ، يخصصكم الله بالرحمة { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ آل عمران : 31 ] ، التي صدرت منكم على خلاف المتابعة { وَٱللَّهُ غَفُورٌ } [ آل عمران : 31 ] ، لمن أطاعه { رَّحِيمٌ } [ آل عمران : 31 ] ، لمن يعصيه ، وتعلقت بالخاص من أهل المعرفة بالفضل ومشربهم الأخلاق ، فقيل : { فَٱتَّبِعُونِي } [ آل عمران : 31 ] ، بمكارم الأخلاق يحببكم بالفضل ، يخفيكم بتجلي صفات الجمال والكمال ، { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ آل عمران : 31 ] ، يستر ظلمة صفاتكم بأنوار صفاته ، { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ آل عمران : 31 ] ، ستور بصفاته صفات أهل رحمة ، وتعلقت بالأخص من أهل المعرفة بالجذبات الإلهية ومشربهم الأحوال ، فقيل لهم : { فَٱتَّبِعُونِي } [ آل عمران : 31 ] ، ببذل الوجود ويحييكم الله بجذبات المحبة الأزلية ، يخصكم بتجلي صفات الجلال ، ويجذبكم عنكم به الله ، { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ آل عمران : 31 ] ، ويستر بجوده ذنوب وجودكم ، فينجوكم عنكم ويثبتكم به ، كما قال : " فإذا أحببته ، كنت له سمعاً وبصراً ولساناً ويداً ، بيِّ يسمع وبِّي يبصر ، وبيِّ يتعلق وبيِّ يبطش " ، ويكون العبد في هذا المقام مرآة كمال لطفه وقهره ، فكما أن الرائي في المرآة يشاهد صفاته بصفاته وذاته بذاته ، فيكون الرائي والرؤية والمرئي واحد ، فكذلك يكون في هذا المقام المحب والمحبة والمحبوب واحد ، والعارف والمعرفة والمعروف واحد ، فهو المحب العارف والمحبوب المعروفة ؛ أي : الذي أحب أن يعرف فأحب نفسه بمحبته ، وعرف نفسه بمعرفته ، { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ آل عمران : 31 ] ، ستور صداً مرآة المحبين والعارفين برحمته ، فمن نظر به جمال صفاته و [ من شهد ] به جلال ذاته ، { فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } [ الشعراء : 225 ] ، وكل بارقة يسيمون تدور رحى الحزن على دموعهم ، وتفور نار الشوق بين ضلوعهم ، فضلوا عن أنفسهم ببقاء المحبوب ، وفقدوا طلبهم بوجدان المطلوب ، فهم بين روض المحو وغدير الإثبات أموات غير أحياء ، أحياء غير أموات ، فطوراً يرونه فيطربون عند الكشف والتجلي ، وتارة يخشونه فيهربون عند الحجب والستر ، فكيف الطرب ولا مطرب ؟ إلى أين الهرب ولا مهرب ؟ { قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ } [ آل عمران : 32 ] ؛ ليكون مهربكم ومقربكم إلى الله في متابعة الرسول ، فإن متابعة صورة جذبة الحق وصدق رد محبته لكم ، { فإِن تَوَلَّوْاْ } [ آل عمران : 32 ] عن متابعة المحبوب { فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْكَافِرِينَ } [ آل عمران : 32 ] ؛ يعني : لا يوجد ذرة محبة في صدق المخالفة ، إلا في صدق المتابعة .