Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 33-37)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم أخبر عن أهل الاصطفاء للمحبة والولاء بقوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحاً } [ آل عمران : 33 ] ، إشارة في الآيتين : إن الله تعالى خلق العالم على سبعة أنواع مختلفة : من الجمادات ، والمعادن ، والنبات ، والحيوان ، والنفوس ، والعقول ، والآرواح ، مظهر لآياته وصفاته ثم اصطفى آدم { عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 33 ] ، وجمع فيه الأنواع المختلفة السبعة لما خصه باختصاص تأمن وهو تشريف إضافة ، { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ الحجر : 29 ] ؛ ليكون مظهر لجميع وجودي صفاته تبارك وتعالى إلى هذا أشار بقوله : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] ، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " إن الله خلق آدم على صورته " أي : خلقه مرآة تظهر ذاته وصفاته فيه ؛ لقوله تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ } [ فصلت : 53 ] ، وقال تعالى : { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " إن خلق آدم فتجلى فيه " ، ويشير في قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 33 ] ، إلى خواص أولاد آدم عليه السلام الذين ثمرات شجرة الإنسانية ، كما سئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، من آلك فقال : " آلي كل مؤمن تقي ونقي " . قوله تعالى : { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } [ آل عمران : 34 ] ؛ يعني : ورثة النبوة والعلم والدين يأخذ بعضها من بعض بالوراثة الدينية ، كقوله تعالى : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } [ مريم : 6 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " العلماء ورثة الأنبياء ، لم يورثوا دينار أولادهما ، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر ، والله أعلم " . واعلم : أن العالم بما فيه كشجرة وثمرتها أهل المعرفة ، فهم درة صدفة العالمين وخلاصة الكونين ، وزبد اليقين ، ولب قشر الوجود قلب شخص الموجود وستر : " فخلقت الخلق ؛ لأعرف " { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ } [ آل عمران : 34 ] لدعائهم واستدعائهم { عَلِيمٌ } [ آل عمران : 34 ] ، بأحوالهم وخصالهم بهم يمطرون وبهم يرزقون . ثم أخبر عن تحرير بنت عمران لرضاء الرحمن بقوله تعالى : { إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَانَ } [ آل عمران : 35 ] ، إشارة في الآية : إن تعلم أن لله تعالى في كل ذرة من ذرات الموجودات حركة ، ولحركتها أسراراً لا يعلمها إلا الله ، فبعضها يظهر بعضها لتغير فيه وتقيس الباقي عليه ، مثل ما رأت حنة طائراً بطعم فرخاً فتحركت لذلك نفسها للولد وهي عجوز ، فدعت الله تعالى أن يهب لها ولداً كما مر ذكره ، فانظر ماذا خرج الله من الأسرار عن إطعام ذلك الطائر فرخه ، وظهر من الآيات والمعجزات من تلك الساعة إلى يوم القيامة بواسطة مريم وعيسى - عليهما السلام - كقوله : { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } [ المؤمنون : 50 ] ، فأول الآية منها أن حنة حملت بمريم مع كبر سنها ، ثم { قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً } [ آل عمران : 35 ] ، فإن تحريها إياها ما كان إلا بإلهام رباني ، قالت : { فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } [ آل عمران : 35 ] ، وما قالت فأقبل مني ؛ لأن معنى القبول راجع إلى التحرير ؛ أي : فاقبل مني تحريراً إياها وأعطني عليه الثواب ؛ ومعنى التقبل راجع إلى المحرى ؛ أي : تقبلها مني بأن تكفلها وتربيها تربية المحررين ، بيانه قوله تعالى : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا } [ آل عمران : 37 ] ؛ أي : تقبل الله مريم أن يربيها ، { إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ } [ آل عمران : 35 ] ، الذي يسمع دعاء المضطرين ، وتحبيبهم العلم الذي يعلم ضمير الداعي قبل أن يدعوا به ، ويعلم ما المحرر في بطنها ولا تعلم الحامل ما هو ، ويعلم ما في بطن المحرر ما أودع من كلمة وروح منه ، وهي لا تعلم . { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ } [ آل عمران : 36 ] ؛ أي : أردت أن يكون المولود ذكراً يصلح للتحرير ، فكان أنثى على خلاف رؤيتي { أُنْثَىٰ } [ آل عمران : 36 ] ، فعاملها الله ، { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } [ آل عمران : 36 ] ؛ فعاملها الله { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا } [ آل عمران : 37 ] ، يعني مريم { بِقَبُولٍ حَسَنٍ } [ آل عمران : 37 ] ؛ يعني : بقبول ذكر ، وفيه معنى آخر ؛ أي : تقبل الله مريم بدعاء حنة بقولها : { فَتَقَبَّلْ مِنِّي } [ آل عمران : 35 ] ، ورباها تربية التقبل والتكفل ، ثم قبلها بقبول حسن ؛ يعني : أخرج منها مثل عيسى عليه السلام ، ويحتمل أيضاً أن يقال : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } [ آل عمران : 37 ] ؛ أي : أثبت لها نباتاً حسناً ؛ يعني : عيسى عليه السلام ، دليله قوله تعالى : { وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] ؛ أي : أنبت لكم . ثم أخبر عن آية أخرى من آياته الكبرى بقوله تعالى : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } [ آل عمران : 37 ] ، إشارة في الآية : إن الله تعالى لما أراد أن يخرج عيسى عليه السلام من مريم بلا أب ، فمن كمال حكمته جعل تكفل مريم إلى زكريا عليه السلام ؛ لئلا يدخل عليها غيره ، فيكون أبعد من التهمة عند الخلق ، { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } [ آل عمران : 37 ] ؛ إظهاراً لكرامتها لديه لتكون بريئة عن التهمة عند زكريا ، فيقول لها : { قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } [ آل عمران : 37 ] ؛ أي : بأي سبب وطاقة وجدت هذه الكرامة ؟ قالت : ليس هذا بسبب من عندي ؛ بل هو فضل من عند الله ، { إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] ، بغير سبب من الأسباب ، وفيه معنى آخر ، وجد عندها رزقاً من فتوحات الغيب الذي يطعم الله به خواص عباده ، الذين يبيتون عنده لا عند أنفسهم ولا عند الخلق ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني " ، قال لي : { أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } [ آل عمران : 37 ] ، فإن من يبيت عند الله يكون رزقه من عند الله ؛ يعني : مما عند الله من فيض ألطافه ، وحسن إعطائه { إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } [ آل عمران : 37 ] ، مريم { بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] ، بما لم يكن في حسابها من ولد عيسى عليه السلام بلا أب ، وفاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء بلا شجرة ، والعلوم اللدنية بلا واسطة ، والمعجزات بلا نبوة ، نظيره قوله تعالى : { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 - 3 ] .