Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 39, Ayat: 21-23)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم أخبر عن خاصية إنزال الماء من السماء بقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ } [ الزمر : 21 ] سماء القلب ، { مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ } [ الزمر : 21 ] الحكمة { فِي ٱلأَرْضِ } [ الزمر : 21 ] أرض البشرية ، { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً } [ الزمر : 21 ] من الأعمال البدنية ، { مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } [ الزمر : 21 ] من الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد بقوله : { ثُمَّ يَهِـيجُ فَـتَرَاهُ مُصْفَـرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً } [ الزمر : 21 ] ، يشير إلى أعمال المرائي تراها مخضرة على وفق الشرع ، ثم يجف من آفة العجب والرياء ، فتراه مصفراً لا نور له ، ثم جعله من رياح القهر إذا هبت عليه مظلماً لا حاصل له إلا الحسرة { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [ الزمر : 21 ] ، وذلك المؤمن بقوة عقله يوجب استغلاله له بعمله إلى أن تبدوا منه آثار اجتهاده وكمال تمكينه وقيادة بصيرته ، ثم إذا بدت لائحة في سلطان المعارف تصير تلك الأنوار معمورة ، فإذا بدت أنوار التوحيد استهلك تلك الجملة ، كما قالوا : فلما استبان الصبح أدرج ضوءه بأنواره أنوار تلك الكواكب . وبقوله : { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } [ الزمر : 22 ] ، يشير إلى أن الإيمان نور ينور الله به مصباح قلوب عباده المؤمنين ، والإسلام ضوء نور الإيمان مستضيء به مشكوة صدورهم ، ففي الحقيقة من شرح الله صدره بضوء نور الإيمان فهو على نور من نظر عناية ربه ، ومن إمارات ذلك النور محو آثار ظلمات صفات الذميمة النفسانية ، وفي حب الدنيا وزينتها وشهواتها ، وإثبات حب الآخرة والأعمال الصالحة لها ، والتحلية بالأخلاق الكريمة الحميدة ، كما قال تعالى : { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ } [ الرعد : 39 ] ، من إماراته أن تلين قلوبهم لذكر الله فتزداد أشواقهم إلى لقاء الله وجواره ، فيسأمون من محق الدنيا وحمل أثقال الأوصاف البهيمية والسبعية والشيطانية ، فيفرون إلى الله ويتنورون بأنوار صفاته ؛ منها : نور اللوائح بنجوم العلم ، ثم نور اللوامع ببيان الفهم ، ثم نور المحاضرة بزوائد اليقين ، ثم نور المكاشفة بتجلي الصفات ، ثم نور المشاهدة بظهور الذات ، ثم أنوار جمال الصمدية بحقائق التوحيد ، فعند ذلك فلا وجد ولا وجود ، ولا قصد ولا مقصود ، ولا قرب ولا بعد ، ولا وصال ولا هجران ، { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] ؛ كلا بل هو الله الواحد القهار ، { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ } [ الزمر : 22 ] ، الصلبة الصدئة برين المكاسب التي لم يقترعها خواطر التعريف ، فبقيت على نكارة الجحد { أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ الزمر : 22 ] ، الضلالة الظلومية الباقية ، والجهالية الدائمة . ثم أخبر عن خطابه وكتابه بقوله تعالى : { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ } [ الزمر : 23 ] ، يشير إلى معانٍ : منها : إنه نزل على محمد صلى الله عليه وسلم القرآن ، أحسن حديث مما نزل على جميع الأنبياء والمرسلين . ومنها : إنه أحسن حديث ؛ لأنه كلام الله وهو قديم ، وكلام غيره مخلوق محدث . ومنها : إنه كتاب متشابه في اللفظ ، مثاني في المعنى من وجهين : أحدهما لكل لفظ منه معاني مختلفة ، بعضها يتعلق بلغة العرب وبعضها يتعلق بأحكام الشرع ، وبعضها يتعلق بإشارات الحق تعالى ، كمثل الصلاة فإن معناها في اللغة الدعاء ، وفي أحكام الشرع ؛ هي عبارة عن هيئات وأركان وشرائط وحركات مخصوصة بها ، وفي إشارة الحق تعالى هي الرجوع إلى الله تعالى ، كما جاء روحه من الحضرة بالنفخة الخاصة إلى الغالب ، فإنه عبر على القيام الذي يتعلق بالسماوات ، ثم على الركوع الذي يتعلق بالحيوانات ، ثم على السجود الذي يتعلق بالنباتات ، ثم على التشهد الذي يتعلق بالمعادن ، فبالصلاة يشير الله تعالى إلى رجوع الروح إلى حضرة ربه على طريق جاء منها ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " الصلاة معراج المؤمنين " ، وليس هاهنا مقام شرح رجوع الروح إلى حضرة ربه بمعراج الصلاة ، وقد شرحنا حقيقة هذا في كتابنا الموسوم بـ " منارات السائرين إلى حضرة الله - جل جلاله - ومقامات الطائرين " ، ولكن المعاني والإشارات والأسرار والحقائق مثاني فيها إلى لا متناهي ، وإلى هذا أشير بقوله : { لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي … } [ الكهف : 109 ] . { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } [ الزمر : 23 ] ، إذا قرعت صفة الجلال أبواب قلوبهم من خشية الله وهيبته ، { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ } [ الزمر : 23 ] بتجلي صفات جماله { إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } [ الزمر : 23 ] بالشوق والطلب ، { ذَلِكَ } [ الزمر : 23 ] ؛ أي : ذلك التجلي { هُدَى ٱللَّهِ } [ الزمر : 23 ] ليس للإنسان إليه سبيل إلا بالطلب رد ، والسبيل سد ، { يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ } [ الزمر : 23 ] بأن يكله إلى نفسه وعقله ويحرمه عن الإيمان بالأنبياء ومتابعتهم ، { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ الزمر : 23 ] من براهين الفلاسفة والدلائل العقلية .