Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 125-127)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم أخبر عن أحسن الدين لأهل اليقين بقوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ } [ النساء : 125 ] ، والإشارة فيهما : إن لا أحد أحسن ديناً ممن { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله } ؛ أي : أسلم ذاته وحقيقته بالكلية ، يدل عليه قوله تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] ؛ أي : ذاته وحقيقته ، وهو ؛ أي : من أسلم محسن محمد صلى الله عليه وسلم وإنما سما محسن لمعنيين : أحدهما : إنه صلى الله عليه وسلم كان مخصوصاً من بين سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالرؤية والمشاهدة ، وإنه فسر الإحسان بأن تعبد الله كأنك تراه ، فسماه الله تعالى محسناً ؛ لاختصاصه بالرؤية والمشاهدة ، والثاني : لأنه صلى الله عليه وسلم أحسن الدين فأجملنه بخلقه العظيم إلى أن بلغ الدين بعده حد الكمال ، فكان صلى الله عليه وسلم أحسن الدين من سائر الأنبياء عليهم السلام فسماه محسناً ؛ فمعنى الآية على التحقيق أن لا أحسن ديناً من محمد صلى الله عليه وسلم وقد استتم ذاته وحقيقته بالكلية حتى اسلم سره وروحه وقلبه ونفسه وشيطانه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " أسلم شيطاني على يدي " ، ومن إسلام نفسه يقول يوم القيامة : " أمتي أمتي " ، حتى يقول الأنبياء : نفسي نفسي ، ومما يدل على هذا التأويل قوله : عقيب وهو محسن { واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفاً } [ النساء : 125 ] ، والاحتمال الذي اتبع ملة إبراهيم وأمره به كان محمد صلى الله عليه وسلم بقوله : { أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } [ النحل : 123 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " بعثت بالحنفية السهلة السمحة " ، ثم شرع في شرح ملة إبراهيم التي اتبعها محمد صلى الله عليه وسلم وقال تعالى : { وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } [ النساء : 125 ] ، ومن شرك الخلة استسلام العبد في عموم أحواله لله بالله ، وأن لا يدخر شيئاً عن الله لا من ماله ، ولا من جسده ومن روحه وجلده ، ولا من أهله وولده ، وهذا كان حال إبراهيم عليه السلام ، ومن شرط المحبة فناء المحبة في المحبة وبقاؤه بالمحبوب حتى لم تبقى المحبة من المحب إلا الحبيب ، وهذا كان حال محمد صلى الله عليه وسلم قيل لمجنون ليلى ابن عامر : ما اسمك ؟ قال : ليلى ، وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم : حبيباً خليلاً فقيراً من الخلة وهي الحجة والفقر ؛ أي : مفتقر بالكلية إلى الله في كل أحواله ليس له منه شيء ، هل هو من الله ؟ كما قال : صلى الله عليه وسلم " أنا من الله " ، وقال تعالى : { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [ النساء : 80 ] ، فافهم جيداً . والفرق بين مقام الخليل ومقام الحبيب ، إن الخليل اتخذ الآلهة عدواً في الله وقال : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 77 ] ، والحبيب اتخذ نفسه عدواً في الله وقال : ليت رب محمد صلى الله عليه وسلم لم يخلق محمداً ، كما قيل قريب بهذا المعنى : بيني وبينك أني يزاحمني فارفع بجودك إني من البين . قال الشيخ الإمام مصنف هذا الكتاب - رحمه الله - : فلما أن رأيت وجودك رحمة ، تمنيت من الله أن ليت لم أخلق . وفي قوله تعالى : { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } [ النساء : 126 ] ، إشارة إلى : إنه تعالى يوجد عند كل ذرة من ذرَّاتها بالإيجاد والحفظ ، والإبقاء والإفناء ، والكل يقولون : { إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [ البقرة : 156 ] ، فمن طلب الحق عند كل شيء يجده مع كل شيء وفي أول كل شيء ، وأول كل شيء وأخر كل شيء ، وظاهر كل شيء ، وإلى هذا يشير بقوله تعالى : { وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً } [ النساء : 126 ] ، وكذا قوله : { أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } [ فصلت : 54 ] ، تفهم إن شاء الله تعالى . { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَٰبِ } [ النساء : 127 ] ، اعلم أن النفس بمثابة المرآة لزوج الروح ففي قوله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ } [ النساء : 127 ] ، يسير إلى الاستخبار عن النفوس { فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ } [ النساء : 127 ] ، عن الصفات { ٱلَّٰتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } [ النساء : 127 ] ؛ يعني : ما أوجب الله تعالى على العبد الطالب الصادق من حقوق النفس ، كما قال صلى الله عليه وسلم لعبد بن عمرو رضي الله عنه حين جاهد نفسه بالليل بالقيام وبالنهار بالقيام : " إن لنفسك عليك حقاً صم وأفطر وقم ونم " ؛ والمعنى : { قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } [ النساء : 127 ] ، إنها مراكبكم في السير إلى الله فلا تقبلوا عن ترتيبها بالكلية فتجاهدوها بالرياضيات فتنقطع عن السير ؛ بل الجواب أن تتفقدوها بأداء حقوقها وتواسوها بالرفق في تركيبها ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق " ، يريد لا تحملوا على أنفسكم ، ولا تكلفوها ما لا تطيقه فتعجز ، وترك الدين والعمل { وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ } [ النساء : 127 ] ؛ يعني : ولا ترغبوا عن مصاحبة النفس وصفاتها ، والمداومة معها في تهذيب أخلاقها وتربية صفاتها ، إلى أن تردوها إلى حد الاعتدال ، فإن قلع هذه الصفات ونفيها بالكلية ليس بمحمود ، وإنما المحمود اعتدالها في أن تفي إلى أمر الله وأحكام الشرع ، وكذا { وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلْوِلْدَٰنِ } [ النساء : 127 ] ؛ وهو الأفعال المتولدة من صفات النفس : كالأكل والشرب والنكاح وأمثالها ، فإن لكل واحد منهم حقاً ورعاية حقوقهم ، { وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَٰمَىٰ بِٱلْقِسْطِ } [ النساء : 127 ] ؛ يعني : وإن تقوموا لرعاية حقوق النفس وصفاتها وأفعالها بميزان الشرع قياماً بالحق والعدل ، { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } [ النساء : 127 ] في حق النفس وصلاحها وإصلاح صفاتها ، { فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً } [ النساء : 127 ] ، وكذلك ما تفعلوا من شر في التفريط والإفراط فيجازيكم به .